اجتمعت قوى السلطة في بعبدا لمناقشة خطّة تصحيح مالي – اقتصادي أعدّتها لجنة الخبراء الاقتصاديين لرئيس الجمهورية ميشال عون، فانتهى الأمر بهم إلى اتفاق على بنود مختارة منها، تتلاءم مع حساباتهم ومصالح أزلامهم، فغابت المعالجات المتعلقة بخدمة الدين العام، وحلّ بدلاً منها بيع أملاك الدولة، وأُسقطت زيادة ضريبة الفوائد بشكل دائم إلى 11% إلى جانب رفع ضريبة الـTVA على الكماليات إلى 15%… كل ما يصيب أصحاب الثروات ويفرض عليهم سداد حصّة عادلة من فاتورة التصحيح شطب تحت ضغط التهويل بأن «ستاندر أند بورز» أمهلت لبنان 6 أشهر
انتهى اجتماع بعبدا المالي والاقتصادي إلى تشويه الورقة التي أعدّتها لجنة الخبراء لرئيس الجمهورية ميشال عون. الورقة كانت عبارة عن خطّة قائمة على أساس معالجة موضعية تتضمن توزيعاً لأعباء التصحيح بين شرائح المجتمع، ومعالجة اقتصادية بنيوية تعيد هيكلة النموذج الاقتصادي من نظام يعتمد بالكامل على التدفقات من الخارج إلى نموذج منتج قادر على ”حماية الليرة»، إلا أنها تحوّلت على أيدي ”الزعماء“ إلى سلّة متفرقات، فانتقوا بنوداً معيّنة وشطبوا بعضها وأجّلوا أخرى، من دون أن يكرّروا إصرارهم على تنفيذ ما اتفقوا عليه سابقاً ولم ينفّذوه. فما الهدف من الاتفاق على تنفيذ بنود موازنة 2019 التي درستها هذه القوى على مدى 20 جلسة في مجلس الوزراء و31 جلسة في لجنة المال والموازنة؟ وما الجدوى من تكرار التزام القوى السياسية بتنفيذ خطّة الكهرباء التي لا تزال عالقة عند إطلاق مناقصات معامل الإنتاج؟ وهل علينا أن نصدّق ببراءة أن هذه القوى التزمت قرار منع التوظيف في القطاع العام الذي تكرّر ذكره مراراً منذ 2005 إلى اليوم؟ ولماذا تصرّ القوى السياسية التي تحكم لبنان على تذكيرنا بالتزامها تطبيق عشرات القوانين النافذة التي أقرّها مجلس النواب ولم توضع موضع التنفيذ منذ سنوات؟
تشويه ورقة الخبراء
اجتماع بعبدا المالي كان يفترض أن يكون منصّة لإطلاق عملية التصحيح المالي وتجنيب لبنان الانهيار. ولهذا السبب أعدّت لجنة الخبراء، بناءً على طلب من رئيس الجمهورية، برنامج عمل يمتدّ على ثلاث سنوات بهدف «تصحيح المالية العامة وضبط الدين العام، ومعالجة الخلل في الحساب الجاري، وبناء اقتصاد منتج تنافسي واحتوائي». يتضمن البرنامج أكثر من 35 بنداً في السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية أبرزها:
– خفض النفقات الجارية للموازنة، ولا سيما خدمة الدين العام، وتحديد سقف للتحويلات من الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان لا يتجاوز 1500 مليار ليرة في العام 2020 وإجراء مناقصة عمومية عالمية لشراء المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان.
– تجميد زيادة الرواتب والأجور في القطاع العام لمدة ثلاث سنوات مع الاحتفاط بحقوق الموظفين وبدرجاتهم لاستيفائها لاحقاً.
– إصلاح النظام التقاعدي وزيادة المحسومات التقاعدية بمعدل 1%.
– زيادة الرسوم على السجائر المحلية الصنع بقيمة 500 ليرة وعلى المستوردة بقيمة 1000 ليرة.
– زيادة ضريبة القيمة المضافة على السلع الكمالية إلى 15%.
– زيادة ضريبة الفوائد إلى 11% وجعلها دائمة (أقرّت في موازنة 2019 بمعدل 10% لثلاث سنوات فقط)،.
– إعادة النظر في تخمين الأملاك العمومية البحرية.
– تقليص حجم الدين العام من خلال اعتماد الشراكة مع القطاع الخاص.
– إقرار نظام التقاعد والحماية الاجتماعية، إقرار نظام التغطية الصحية الشاملة.
من هذه السلّة الواسعة، اختار المجتمعون في بعبدا، بحسب المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس الحكومة سعد الحريري إثر انتهاء الاجتماع، شطب كل ما يتعلق بزيادة الضرائب على الشرائح الأكثر قدرة في المجتمع، وهو المبدأ الذي اعتمدته لجنة الخبراء لتكون الخطّة متوازنة إلى حدّ ما. وبدلاً من الضريبة على الكماليات، وإقرار أنظمة التقاعد والتغطية الصحية الشاملة، وزيادة ضريبة الفوائد، قرّر المجتمعون في بعبدا أن يعيدوا تذكير اللبنانيين بما أقرّوه والتزموا به في موازنة 2019 ”وتنفيذه بدقة“ كما قال الحريري. كذلك، أشار إلى اتفاق على خفض عجز الكهرباء إلى 1500 مليار ليرة، وشراء الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان عبر مناقصة عالمية، ومنع التوظيف في القطاع العام، وتطبيق القوانين المقرّة، والسماح لمجلس الإنماء والإعمار بالاستعانة بشركات دولية ومحلية لإطلاق مناقصات المرحلة الأولى من برنامج «سيدر»، وإطلاق مشروعي «أليسار» و«ألينور»، وعرض دراسة ماكينزي على مجلس الوزراء… وخفض الدين العام عبر التشركة مع القطاع الخاص.
اتفاق على بيع المؤسسات العامة ذات الطابع التجاري
كيف ستنفذ القوى السياسية خفض الدين العام عبر التشركة؟ كانت فكرة الخبراء أن هناك مؤسسات عامة ذات طابع تجاري مملوكة من الدولة يمكن بيع ثلثها للعموم ضمن سقف 1% من الأسهم كحدّ أقصى لكل مكتتب ما يخلق سوقاً مالية، ويعطي الدولة إيرادات تستعمل لإطفاء جزء من الدين العام من دون أن تخسر سيطرتها على هذه الشركات… لكن العبارات المرتبكة التي عرضها الحريري عن التشركة لا توحي بأن ما اتفق عليه في الاجتماع هو نفسه ما رسمه الخبراء، فضلاً عن أن هذه الخطوة لم تكن تشكّل بديلاً من ضرورة خفض خدمة الدين العام عبر آليات متفق عليها بين مصرف لبنان ووزارة المال والدائنين (المصارف)، وهو الأمر الذي ألغي أو لم يتفق عليه.
حملة التهويل متواصلة
الشعبوية دفعت الحريري إلى سلوك حاد تجاه سؤال من مراسلة صحافية تستوضح الاتفاق على الضرائب، فسألها: «هل ذكرتُ شيئاً عن الضرائب؟ الجواب عندك». هذه الإجابة تعني أن الضرائب التي اقترحها الخبراء لتطاول الطبقة الأكثر ثراءً في المجتمع، وهي الطبقة الأكثر انتفاعاً من النموذج الاقتصادي المعتمد في لبنان، شطبت حتى الآن. يقول أحد الخبراء المشاركين في لجنة الخبراء: «ما قاله الحريري لا يطمئن، وليس مريحاً أن يتم الاتفاق على مجموعة بنود عشوائية من الخطة المرسومة بدقّة وبعناية».
ورغم أن الحريري بدا مرتبكاً بعد اجتماع دام لأربع ساعات، إلا أنه حقق انتصاراً كبيراً في نقل اجتماع بعبدا إلى لجنة متابعة برئاسته بعدما كان ممتضعاً من سلوك رئيس الجمهورية تجاه استدعاء لجنة خبراء اقتصاد، وأمضى يمارس عملية تهويل بأن لبنان واقع تحت ضغط الإنذار والمهلة الممنوحة له من ”ستاندر أند بورز“ لستة أشهر، ثم مضى يعدّد الإجراءات التي فرضت على اليونان يوم دخولها ببرنامج إنقاذي مع صندوق النقد الدولي، وهي إجراءات غير شعبية بالمطلق، ورمى أسباب الأزمة على عاتق ”الحروب بيننا“ و«المشاكل التي بدأت قبل انتخاب رئيس الجمهورية»…
باختصار، يمكن الاستنتاج بأن حالة إنكار الأزمة الفعلية الكامنة في بنية النموذج الاقتصادي اللبناني لا تزال على حالها، والمعالجات هي نفسها تتكرّر بالخصخصة والسياسات التقشفية.
وتجدر الإشارة إلى أن الاجتماع ضم إلى عون، الرئيسين نبيه بري وسعد الحريري، وكلا من الرئيس نجيب ميقاتي، الوزير جبران باسيل، النواب محمد رعد، أسعد حردان، طلال ارسلان، آغوب بقرادونيان، سامي الجميل، جهاد الصمد، والنائبين السابقين وليد جنبلاط وسليمان فرنجية، ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.