حين يتسلل دجل المصارف بإسم “حقوق المودعين”

إنها مبادرة جديدة، لتوقيع “شرعة حقوق المودعين في المصارف العاملة في لبنان”. مجموعة من النوّاب والخبراء الذين اختاروا، في هذه اللحظة بالتحديد، أن يأخذوا هذا الموقف، ويطالبوا سائر النوّاب بأخذ الموقف المناسب “ليُبنى على الشيء مقتضاه”. لا يمكن لهذا العنوان بحد ذاته، أن يشير إلى نوعيّة التموضع الذي اختاره هؤلاء في معركة توزيع الخسائر، وإعادة هيكلة القطاع المالي. لا بل ثمّة ما يدعو إلى التوقّف والحذر، حين يكون شعار المعركة قدسيّة الودائع.

أبطال تقديس الودائع

تقديس الودائع.. الشعار الأجوف والفارغ، كما وصفه البنك الدولي بعبارات بالغة الحكمة، حين أشار إلى كيفيّة استخدام هذه العناوين من قبل السياسيين، بصورة متنافية مع الواقع، للحؤول دون إيجاد حلول لمعظم، إن لم يكن كل، أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة. وبما يحمّل الخسائر لمن يستحق أن يتحمّلها: أصحاب المصارف وكبار الدائنين المستفيدين من العمليّات الاستثنائيّة والهندسات وأرباح المرحلة السابقة الفاحشة.

إنّه الشعار الملغوم، الذي أسقطت النخب تحت ظلّه الكابيتال كونترول في بدايات الأزمة، وهرّبت أموالها من المصارف. وهو الشعار الفخ، الذي تحرّكت تحت ظلاله أفاعي لجنة المال والموازنة عام 2020. يوم ولدت “لجنة تقصّي الحقائق”، وقادت حملة التزييف والتضليل، عبر تبنّي خزعبلات محاسبيّة أدهشت العالم بتهرّبها من تحديد الخسائر، للحؤول دون توزيعها بعدل. ثم كانت سنوات السقوط الحر الثلاث، وقاد الاقتصاد توزيع هجين للخسائر، حمّل الكلفة لعموم اللبنانيين.

وبما أنّ الشيء بالشيء يذكّر، ها هو ميشال معوّض، أحد أبطال لجنة تقصّي الحقائق يومها، يتوسّط ربَع شرعة حقوق المودعين، مكرّرًا العناوين نفسها، إنما بعدما بات مرشّحًا رئاسيًّا.. حتّى إشعارٍ آخر. وإلى جانب ميشال، يجلس ملحم خلف، نائب التغيير الذي اختار تموضعه في المعركة باكرًا، بعدما اختار لحظة حسّاسة لإطلاق النار على نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، في الوقت نفسه الذي هاجت فيه المصارف وماجت على الشامي بالتحديد، حين تجرّأ على اقتراح “شطب رساميل المصارف” في خطّته. يومها، اعتبر خلف أنّ شطب الرساميل يضر بالمودعين، الذي حوّلوا ودائعهم في ما مضى إلى رساميل! وإلى جانب هؤلاء، وضّاح صادق، الذي بات يستاء مؤخّرًا من “عبادة صندوق النقد” في بياناته، مكررًا معزوفة يعرف الجميع عنوانها ومصدرها ومآلها.

على الطاولة التي جمعت هؤلاء بسنّة مستقلّين وتغييريين، غاب فراس حمدان وميشال الدويهي وإبراهيم منيمنة وأسامة سعد وحليمة قعقور، وغيرهم من النوّاب الذين –باختلاف وتنوّع مشاربهم السياسيّة- يملكون أنوفًا حسّاسة على مسائل كتوزيع الخسائر ومد اليد على دافعي الضرائب والأصول العامّة لإنقاذ المصارف. ثمة استقطاب صامت يعكسه غياب هؤلاء، تمامًا كما عكس هذا الاستقطاب مواقفهم السابقة في الملفات الماليّة والاقتصادية. حتّى بولا يعقوبيان لم تحضر، هي التي أتعبتها “حركات” أنطون الصحناوي في الأشرفيّة مؤخرًا، وباتت ترصد بحذر توسّع “شراء” الأمن والإعلام.. والمواقف.

تراتبيّة توزيع الخسائر المشبوهة

ثمّة رائحة مزعجة في معسكر هذه الشرعة الوليدة إذًا. وكذلك في العناوين التي رُفعت على الشاشة التي خيمت فوق رؤوس الجالسين: بدنا نوزّع الخسائر على المسؤولين. وبعد هذه العبارة، يحدد الشعار من يفترض أن يحمل أوّل شريحتين من الخسائر: الدولة ومصرف لبنان.. ثم المصارف.

عبارة، سرعان ما تحيلك إلى البهلوانيّات التي لطالما قادتها وسوقتها جمعية المصارف منذ العام 2020، وعلى رأسها أفكار “الصندوق السيادي”، وغيرها من الأفكار التي تبيع المودعين وهم إمكانيّة سداد كتلة خسائر توازي أكثر من 3.5 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي، من أموال دولة لا تملك القدرة على تصحيح رواتب العاملين فيها.

هو الوهم الذي سوّقه هؤلاء للاعتقاد بأن مصدر الخسائر (ميزانيّة مصرف لبنان) قادرة على تحمّل خسائر القطاع المالي! وما معنى تحميل “المصارف”، لا “الرساميل المصرفيّة” بشكل خاص، الشريحة الثالثة من الخسائر، بحسب هذه المعادلة، إذا كان الحديث هو عن خسائر القطاع المصرفي نفسه؟ لا بأس بالتخبيص هنا، إذا ما التفتنا إلى أنّ الشرعة ابتدعت شيئًا إسمه “خسائر القطاع العام”، كمفهوم جديد لم يسبقها أحد إليه.

الشعارات المكلفة

ثم تشرع بقراءة الشرعة العبقريّة: جميع المودعين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات. هو البند الأوّل في الشرعة، الذي تتساوى فيه مليارات الأرباح الخياليّة والهندسات والعمليّات الاستثنائيّة، والالتزامات “للأطراف ذات الصلة” (المساهمين)، وحاصلات عمليّات تبييض الأموال، مع أموال الصناديق التقاعديّة والتعاضديّة، وأموال صغار المودعين وإدخارات الأفراد. ثم تذهب الشرعة إلى المطالبة بإعادة “أموال هؤلاء كاملة”، التي تتجاوز قيمتها الدفتريّة اليوم 95 مليار دولار، فيما خسر القطاع المالي منها أكثر من 73 مليار دولار.

حسنًا، بالإمكان القول أنّ هذا “حكي”، و”الحكي ما عليه جمرك”. لكنّ جمرك الإطاحة بأي محاولة لتحديد خسائر القطاع المالي بدقّة، وتوزعيها بشكل عادل وصريح، كان مكلفًا على مدى السنوات الثلاث الماضية. وهويّة المستفيد من هذه المناورات، لم يكن سوى المتضرّر من أي مسار يمكن أن يبدأ بشطب الرساميل المصرفيّة نفسها، وأرباح المراحل السابقة الخياليّة، أي النخبة الماليّة والسياسيّة نفسها.

هو شعار قدسيّة الودائع، الأجوف والفارغ والانتهازي، تمامًا كما وصفه البنك الدولي. هو الشعار الذي حمّل ملايين المقيمين كلفة الإبقاء على هذه الخسائر، وهو ما يُستعمل اليوم للإطاحة بأي معالجة نهائيّة لها، بحجّة إمكانيّة معالجة الخسائر.. من أموال وأصول القطاع العام!

ما أرحم رياض سلامة

في بعض مقاطع الشرعة، تتجاوز وقاحتها الإجحاف الذي مارسه مصرف لبنان بحق المودعين على مدى السنوات الثلاث الماضية. هي شرعة تطالب بجدولة استعادة الودائع على قاعدة النسبيّة حسب حجم الوديعة. أي أنّ سداد 100$ للمودع الذي يملك 500$ في حسابه، سيحتاج إلى سداد مليون دولار في المقابل للمودع الذي يملك خمسة ملايين دولار في حسابه. يمكن لهذا المليون أن يكون ربح أحد “سوابات” مصرف لبنان، في سيرك العمليّات التي جرت قبل 2019، ويمكن أن يكون من أرباح المصرفيين التي تم توزيعها في ذلك الوقت.. لا فرق، طالما أن الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، في هذه الشرعة. ما أرحمك يا رياض سلامة، مقارنة بهؤلاء!

ثم ترفض الشرعة أي حد من حق المودع بممارسة حق الملكيّة كاملًا، “ولا يجوز إطلاقًا احتجاز أو تجميد أي وديعة ومنع التصرّف بها”. وفي ذلك، تتناغم الشرعة مع سعي أبطال اللوبي المصرفي في مجلس النوّاب –وعلى رأسهم ميشال معوّض بالمناسبة- إلى إسقاط أي محاولة لصياغة قانون “الكابيتال كونترول”. ثم يأتي على بال القارئ سؤال بديهي: هل معنى ذلك أنّ ما جرى عام 2020، من إسقاط لقانون الكابيتال كونترول، ومن ثم إطلاق العنان لتهريب ودائع كبار القوم، كان مشروعًا؟ وهل معنى ذلك أنّ إسقاط الكابيتال كونترول اليوم، وإبقاء النافذة مفتوحة لألعاب تهريب الأموال من البلاد، مازال مشروعًا؟ من المستفيد من هذا الكلام؟ وما هي هذه الصدفة التي تجعل كل ما في شرعة المودعين، مطابقًا لمصالح المصرفيين؟

شعار الاقتصاد الحر

وفي جميع ثنايا الشرعة، يتكرّر الحديث الساذج والممجوج عن الاقتصاد الحر، المكرّس في الدستور، والذي لا يفترض أن يتم المساس به. هل يمكن للمجتمعين أن يفسّروا كيف يسمح الاقتصاد الحر بتحميل المال العام كلفة إنقاذ قطاع مصرفي مفلس؟ هل يمكن لهم أن يفسّروا كيف ينسجم الاقتصاد الحر مع الإبقاء على كتلة خسائر، تحول دون سداد الودائع ودون إجراء التحويلات إلى الخارج، ودون التوصّل إلى سعر صرف موحّد وعائم؟ ألم تقم دول الاقتصاد الحر بتوزيع عادل لخسائر قطاعاتها الماليّة حين ضربتها الإفلاسات؟ وألم تقر قوانين للكابيتال كونترول، كي لا تشرّع تهريب الأصول والودائع لصالح قلّة محظيّة من المستفيدين؟

في خلاصة الأمر، لا يخدم كل ما كُتب في تلك الوثيقة المودعَ، ولا الاقتصاد الحر، ولا عموم المقيمين من محدودي دخل وأصحاب مهن حرّة وتجّار.. هو خطاب الأوليغارشيّة، والحلقة المهيمنة في النظامين السياسي والمصرفي. وهو الخطاب الذي رأينا، على مدى السنوات الثلاث الماضية نتيجته. وهو الخطاب الذي يتكامل اليوم مع خطّة الظل: تأبيد الوضع القائم وتطبيعه، والإطاحة بأي حل منطقي مطروح على الطاولة، وركل التفاهم مع صندوق النقد الدولي الذي يزعج النائب وضّاح الصادق، وترك البلاد أسيرة مصارف زومبي تمتص دم المال العام والمجتمع. هي حلقة أخرى تتكامل مع المشهد المالي القائم اليوم.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةعمولات المصارف وشروطها الجديدة للتعامل مع “صيرفة”
المقالة القادمةلا واردات على الأملاك المبنية بعد استقالة كل موظفي المعلوماتية