كل ما قيل عن النهوض الاقتصادي المأمول، يعتمد بشكل أساسي على احتمالات تطوير ونموّ القطاعات الإنتاجية، لكن الأزمة أظهرت أن تركيز السلطة ينصبّ على القطاع المالي الذي يفيض خسائر، فيما تُركت قطاعات الإنتاج تذوب. إحصاءات البنك الدولي تشير إلى أن القيمة المضافة التي يقدّمها القطاع الزراعي من 6.5% من الناتج المحلّي في عام 1994 إلى نحو 1.4% في عام 2021. هذا المسار التنازلي بدأ منذ التسعينيات، وقد كان جزءاً من التحوّل الذي شهدته بنية الاقتصاد اللبناني، نحو التطرّف الريعي. يمكن توزيع هذا الانحدار على مرحلتين: منذ مطلع التسعينيات لغاية 2019 فقد هذا المؤشّر نحو 45%، بينما في سنوات الأزمة فقد نحو 60%.
الهبوط الحاد خلال الأزمة يعكس التراجع السريع في أداء القطاع الزراعي، وهو ما يدلّ على أن وقع الأزمة المالية – النقدية كان قاسياً على هذا القطاع الذي كان خاضعاً لسمة طغيان القطاعات الخدماتية على الإنتاجية. ففي السنوات الأخيرة، أي منذ 2020 لغاية اليوم، فقد القطاع الزراعي قدرته على استيراد السلع والمواد الأولية بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة بشكل كبير. من ناحية ثانية، خسر القطاع مصدر التمويل المصرفي الذي كان يسند «خابية» الزراعة، رغم كونه مصدراً متواضعاً للتمويل. وهنا يتضح الانعكاس الفعلي لانهيار القطاع المصرفي على الاقتصاد الحقيقي. إذ إن فقدان دور التمويل والإقراض في الاقتصاد ينعكس بشكل سلبي على الحركة الاقتصادية، ليس فقط على النشاط الاستهلاكي، بل أيضاً على النشاط الإنتاجي.
وكانت الزراعة في لبنان قد تأثّرت عموماً بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت الأرقام التي ينشرها البنك الدولي حول هذا الموضوع ليست محدّثة بما يكفي لتشمل هذه الفترة. فبعد الحرب، ارتفعت أسعار الأسمدة عالمياً بسبب العقبات التي حدثت في سلاسل التوريد العالمية، إذ إن أوكرانيا وروسيا من أكبر المصدّرين للأسمدة الزراعية عالمياً. كما أن ارتفاع أسعار الطاقة في بداية الحرب أسهم في ارتفاع كلفة إنتاج الأسمدة التي يعتمد إنتاجها بشكل كبير على الطاقة، وهو ما أدّى إلى ارتفاع أسعار هذا المُدخل الأساسي في القطاع الزراعي. لذا، كان الارتفاع في أسعار الأسمدة مساهماً كبيراً في تدهور القيمة المضافة للقطاع الزراعي في الاقتصاد اللبناني أيضاً.