واقع القطاع العام
يكفي إلقاء نظرة خاطفة على ما أقر من موازنات عامة على مدار السنوات الماضية حتى تتضح حقيقة تآكل الموازنات بالنفقات الجارية التي تتجاوز غالباً 90 في المئة من حجم الموازنة العامة منها ما يقارب 50 في المئة (موازنة 2022 مثالاً) أو 48.9 في المئة بالحد الأدنى (موازنة 2024 مثالاً) بحسب معهد باسل فليحان المالي، نفقات على الرواتب والأجور وكل ما يرتبط بها من مخصصات رواتب وأجور وملحقات ومعاشات تقاعد وتعويضات وهو ما يعد عبئاً ثقيلاً جداً على مالية الدولة وعموم الاقتصاد.
وعلى الرغم من أن نسبة الشغور في ملاك الدولة يبلغ 73 في المئة، ثمة “فائض” في عدد العاملين تحت سقف الإدارات العامة من خارج الملاك وهؤلاء يشكّلون المعضلة الأكبر للقطاع العام، فالغالبية الساحقة منهم دخلت القطاع العام بموجب توظيف سياسي وطائفي. وتقدّر رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي في حديثها لـ”المدن” أعداد الموظفين عشوائياً في القطاع العام بنحو 13 ألفاً بحسب أرقام العام 2022 وهؤلاء تم توظيفهم بشكل مخالف للقانون. وتؤكد مشموشي أنه يتم العمل حالياً على تحديث هذا الرقم في إطار خطة متكاملة لإعادة هيكلة القطاع العام.
وإذ تذكّر مشموشي بأنه ورغم تلك الأعداد الكبيرة من العاملين بالقطاع العام والموظفين عشوائياً، ثمة شغور هائل في ملاك الدولة يبلغ 73 في المئة بحسب أرقام العام 2022، فهناك 27 ألف وظيفة ملحوظة في ملاك الدّولة منها 7400 وظيفة فقط مشغولة والباقي شاغر، تتحدث عن مخاطر الشغور في العديد من الوظائف الهامة والحساسة “فكل ذلك من شأنه إضعاف إنتاجية القطاع العام”. من هنا ترى مشموشي أن إعادة هيكلة القطاع العام باتت حاجة ملحّة مع مراعاة مسألة التحول الرقمي.
ولأن الإصلاح يبدأ من تنظيف الإدارة وإعادة انتظامها ترى مشموشي وجوب “استعادة قيمة الوظيفة العامة وكرامة الموظف لأنه ثمة شرخ كبير بين الموظف وإدارته أطاح بالثقة بين الطرفين وأخرج الكثير من الكفاءات” وتكشف عن خطة يتم العمل عليها حالياً مع الحكومة تستهدف إعادة النشاط إلى الإدارة العامة وتفعيل المحاسبة وحماية الحقوق وصون الواجبات في الإدارة العامة.
إعادة الهيكلة مدخل الإصلاح
لا يختلف الخبراء على أن إعادة هيكلة القطاع العام تتصدّر عملية الإصلاح الإداري التي تشكّل بدورها ركيزة الإصلاح الاقتصادي، حتى أن صندوق النقد الدولي تشدّد في ضرورة زيادة الشفافية في القطاع العام وهو ما دفع برئيس الجمهورية جوزاف عون إلى إدراج مسألة إعادة هيكلة القطاع في خطاب القسم واضعاً إياها في سلّم الأولويات الإصلاحية. فالقطاع العام في لبنان يشكّل عبئاً مالياً على الخزينة العامة وفي الوقت عينه بات قطاعاً شبه معطّل.
وإذ تعيد مشموشي التذكير بالخطة التي تم التقدّم بها إلى الحكومة السابقة في شهر آب 2024، والتي اقترحت حلولاً للإدارة العامة تبدأ من إقرار زيادة موضوعية على الرواتب والأجور في القطاع العام تتوزع على 5 سنوات، وتدخل في صلب الراتب إلى جانب معالجة مسألة التوظيف العشوائي، تؤكد أن الأهم يبقى في الانتظام العام وتطبيق القوانين والأنظمة النافذة وتفعيل المساءلة والمحاسبة لإلزام الموظفين ورؤسائهم التسلسليين القيام بواجباتهم في مقابل احترام حقوقهم وتقدير جهود الموظفين الذين يقومون، رغم كل الظروف، بواجباتهم، فذلك سيضمن ارتفاع الإنتاجية العامة.
باختصار يتم العمل حالياً على خطة متكاملة لتنظيف الإدارة العامة من الداخل إلى جانب استقطاب كفاءات جديدة بعدما شغرت الوظائف الرئيسية في الإدارة كالدوائر القانونية والمحاسبية والمعلوماتية وبعض وظائف المالية التي من شأنها تحسين الجباية. وتؤكد مشموشي على أنه وفي مقابل ملء الشواغر الهامة، سيتم الاستغناء عن وظائف عديدة انعدمت الحاجة إليها كالمستكتبين والكتّاب وغيرهم. كما أن على الوزارات والإدارات كافة تحديد حاجاتها من الكوادر البشرية بحسب الاختصاصات والمهام المستجدة لحسن إدارة القطاع العام بما يواكب التطور التكنولوجي ومراعاة الحوكمة والتحول الرقمي.
التحول الرقمي أساس الشفافية
وعلى الرغم من أهمية هيكلة القطاع العام وإداراته، ثمة طريق إلزامي لا بد للإدارة العامة أن تسلكه للقضاء على البيروقراطية والفساد وهو التحول الرقمي. هذا المصطلح الذي تكرّر على مدار السنوات السابقة، ولم تشهد الإدارة العامة أي تقدّم فيه على الرغم من الجهود الكبيرة التي بُذلت من قبل أفراد ومؤسسات.
فالتحوّل الرقمي يعد المعبر إلى الإدارة الرشيدة وتعزيز الإنتاجية والشفافية، ولا يقتصر التحوّل الرقمي على وضع الخطط إنما يستلزم وضع الأطر القانونية اللازمة وتوفير الموارد المالية لإنشاء البنية التكنولوجية المطلوبة في القطاع العام وتطوير وتأهيل الإدارة والموظفين، وأكثر من ذلك يستلزم الكثير من التوعية وتغيير العقلية التقليدية المسيطرة على الإدارة العامة وأصحاب القرار.
ففي العام 2018 تم وضع استراتيجية للتحول الرقميّ لتسهيل المعاملات الإدارية بهدف تعزيز الشفافية والمساءلة، ومنذ ذلك الحين لم يتم تطبيق تلك الاستراتيجية ولم تلمس الإدارة العامة تقدماً، والسبب “أن لا إرادة سياسية لتطبيقها” بحسب ما تؤكد سارة الحريري استاذة العلوم الاقتصادية في جامعة القدّيس يوسف.
وتذكّر الحريري في حديثها لـ”المدن” بمبادرات سبقت العام 2018، هدفت جميعها إلى تحسين الخدمات العامة وزيادة انتاجية الإدارات خدمة للاقتصاد. وتوضح أن التحول الرقمي له أهمية كبيرة على الإنتاجية بالإدارة العامة وعلى تشجيع المستثمرين والمواطنين أيضاً على إدارة شؤونهم وتسريع العمليات الاقتصادية، فاليوم بات التحول الرقمي واجباً وضرورة وليس مسألة ثانوية. ومن جهة بحسب الحريري على لبنان أن يواكب العصر والتطورات التكنولوجية العالمية، ومن جهة أخرى عليه تطبيق استراتيجية التحول الرقمي بالإدارة العامة للحد من الفساد الذي بلغ حالياً حدّه الأقصى، “ولكن يبقى العائق الأساس أمام عدم تطبيق التحول الرقمي غياب الإرادة السياسية”. على ما تقول الحريري.
تحدّيات وعوائق
ولا تقتصر العوائق في وجه التحوّل الرقمي للإدارة العامة وإعادة هيكلة القطاع العام وإصلاحه على القرار السياسي فحسب، بل أيضاً هناك عوائق تشريعية ومالية، وفق وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية السابقة نجلا رياشي. وتوضح رياشي في حديثها لـ”المدن” أن إصلاح القطاع العام يستلزم دعماً مالياً لم يتوفر كما أن القوانين الإصلاحية لم يتم البت بها في مجلس النواب.
وأكثر من ذلك ثمة عوائق تفوق بخطورتها التشريعية والمالية، وهي الذهنية التي تحتاج إلى تغيير فالأخيرة، بحسب رياشي، ما لم تتغير فإنها ستعيق إصلاح القطاع العام مهما بلغ حجم الدعم المالي والتشريعي، وهنا نتحدث عن ذهنية المسؤول والموظف والمواطن أيضاً وهذا أمر يستلزم ورشة كبيرة تضمن مبدأ المحاسبة والمساءلة للكوادر غير المنتجة والتنويه بالكوادر المنتجة.
وتلتقي رياشي مع الحريري لجهة العوائق في وجه التحول الرقمي وإصلاح القطاع العام. وتقول: “من تاريخ وضع استراتيجية التحول الرقمي في لبنان وحتى اليوم، ثمة تراجع مخيف بالأداء وبفعالية الحكومة فلم يتم تحسين الشفافية ولم يتراجع مستوى الفساد ورغم كل السياسات التي وضعت والاستراتيجيات نلاحظ أننا لم نطبق شيء منها، فتحسين الأداء السياسي لا يرتبط فقط بوضع قوانين إنما في تنفيذها وهذا هو التحدي الأهم”.
في لبنان وُضعت استراتيجية التحول الرقمي واتُخذت الكثير من القرارات ولكن لم يتم اعتماد أي من السياسات الشاملة إنما فقط سياسات عشوائية مجتزأة وهو ما عرقل الإصلاح، لاسيما منذ العام 2019 حيث غابت كلّياً الرقابة والمحاسبة واستشرى الفساد والزبائنية في مختلف إدارات الدولة.
بالمحصّلة تغيب الإرادة السياسية عن اتخاذ قرارات حاسمة حين يكون أصحاب القرار من المنتفعين، وهو ما عرقل فعلياً مساعي إصلاح القطاع العام وتطبيق استراتيجية التحول الرقمي، وعزّز بالمقابل سياسة الرشى ورسّخ منافذ الفساد والزبائنية السياسية وغيّب مبدأ المحاسبة، ويبقى السؤال مع انطلاق حكومة العهد الجديد ورفعها راية مكافحة الفساد أينما وُجد، هل سيشهد القطاع العام عملية تنظيف فعلية؟
يُنشر هذا التقرير في إطار زمالة صحافية تنظمها مؤسسة “مهارات” حول “التغطية الإعلامية لمسار الإصلاحات”.