تفيد الأرقام التي قدّمتها دراسة لوزارة الشؤون الإجتماعيّة، بالتعاون مع جامعة القدّيس يوسف، أنّ المسنّين الذين تتجاوز أعمارهم الـ60 سنة يشكّلون اليوم 11.5 في المئة من السكّان اللبنانيين. ومن المتوقّع، أن تسير هذه النسبة في مسار تصاعدي لتبلغ ال21.1 في المئة، بحلول العام 2035. أي ما تتجاوز نسبته خُمس السكّان اللبنانيين. مع العلم أنّ هذه النسبة نفسها لم تكن تتجاوز مستوى الـ7.3 في المئة من المجتمع اللبناني، سنة 2014. أي منذ أقل من خمس سنوات فقط.

هذا المسار التصاعدي الحاد، أصبح يعبّر عن تحوّلات اجتماعية بالغة الأهميّة، ناتج عن عاملين رئيسيّين، أوّلهما هجرة الشباب الكثيفة، والتي بدأت تؤثّر على نسبتهم من إجمالي اللبنانيين المقيمين. فحسب تقرير “الهجرة في المنطقة العربيّة”، لمنظّمة الإسكوا، ارتفعت نسبة اللبنانيين المهاجرين، من إجمالي السكّان اللبنانيين، إلى نحو 17 في المئة، مع العلم أنّ حوالى 38.5 في المئة من هؤلاء المهاجرين، تتراوح أعمارهم بين الـ14 والـ25 سنة، أي من فئة الشباب تحديداً.

أمّا العامل الآخر فيتعلّق تحديداً بتراجع معدّلات الخصوبة لدى اللبنانيين، من جميع الفئات. وهذا ما تظهره بوضوح أرقام تقرير “التوقّعات السكّانيّة في العالم”، لشعبة السكّان في الأمم المتحدة. فحسب أرقام التقرير انخفضت نسبة الخصوبة لدى اللبنانيين من ثلاثة أطفال كمعدّل بعد الحرب مباشرة، إلى 2.22 سنة 2000، وصولاً 1.7 اليوم. ومن المعروف أنّ انخفاض هذا المعدّل إلى ما دون مستوى ال2.1، يعني في المستقبل الاتجاه تدريجيّاً إلى مجتمع أكثر شيخوخة، كون عدد الولادات في الجيل الذي يولد اليوم، سيكون أقل مقارنةً بالأجيال السابقة.

هذه التحوّلات تطرح تحدّيات كبيرة أمام المجتمع اللبناني اليوم، وأوّلها السؤال عن شبكات الحماية الاجتماعيّة المتوفّرة لفئة المسنّين. فاليوم، ورغم إقرار قانون “إفادة المضمونين المتقاعدين من تقديمات الضمان الصحّي” منذ سنتين، مازالت تقديمات الضمان الصحّي لا تغطّي أكثر من ثلث اللبنانيين. وبمعزل عن التغطية الصحيّة، مازال توفير مصادر الدخل هاجساً أساسياً لدى الجزء الأكبر من المسنّين اليوم، خصوصاً في ظل عدم وجود أنظمة رواتب تقاعديّة لدى الأغلبيّة الساحقة منهم. كما تعاني مراكز الرعاية الإجتماعيّة، التي تختص بتقديم الدعم لهم، من إهمال وتردٍّ في نوعيّة خدماتها.

أمّا على المستوى الاقتصادي، فإن توجّه المجتمعات نحو تحوّلات ديموغرافيّة على هذا النمط، شكّل تحدياً جديّاً لدول تملك مقدّرات اقتصاديّة وإنتاجيّة كبيرة، إذ أنّ ارتفاع نسبة المسنّين في المجتمع مستقبلاً، سيعني تقلّص القوّة العاملة والمنتجة في المجتمع، مقابل توسّع الفئات التي تحتاج إلى الدعم الخاص، والحماية الإجتماعيّة. ومن الطبيعي أن يعني ذلك مستقبلاً، بالنسبة إلى لبنان، التوجّه نحو تحديات أكبر، في ظل وجود اقتصاد ريعي قائم في البلاد منذ انتهاء الحرب الأهليّة، وعدم وجود أي توجّه إلى إصلاحات جوهريّة، في بنية هذا النمط الاقتصادي والأسس التي يقوم عليها.

وبعيداً عن التحديات الناتجة عن توسّع الفئة المسنّة في المجتمع، يبرز أيضاً السؤال عن ظاهرة الهجرة، وطريقة التعاطي معها. فمنذ انتهاء الحرب، تعاطى اللبنانيّون مع ظاهرة الهجرة، بوصفها مصدر تدفّقات نقديّة، تؤمّن للاقتصاد اللبناني جزءاً من حاجته للعملة الصعبة، وزيادة الودائع. وصارت المعادلة قائمة على تصدير الأدمغة مقابل الاستفادة من هذه التحويلات الماليّة. واليوم، أصبح واضحاً أنّ هذه الظاهرة تُنتج تشوّهات اجتماعيّة بنيويّة، ستكون مصدر قلق على المدى البعيد. ومن غير المنطقي استمرار التعاطي معها كمصدر سيولة، بمعزل عن كل المشاكل التي تولّدها.

من المؤكّد أن لبنان لن ينفرد مستقبلاً بهذا النوع من التحديات. فأرقام الأمم المتحدة تقول أن عدد الدول التي سيمثّل المسنّون أكثر من 20 في المئة من سكّانها، سيقفز إلى 13 دولة سنة 2020 و34 دولة سنة 2031. السؤال الأساسي سيتعلّق فعلاً بنوع الاقتصاد، الذي سيستعد لملاقاة هذه التحديات. فهل سيكون اقتصاداً منتجاً قادراً على حماية الفئة المسنّة الأكثر هشاشة، أم سيكون مصدر تأزّم أوضاع هذه الفئة الإجتماعيّة؟ وهل سنحافظ على الشباب هنا، عبر بناء هذا الاقتصاد المنتج، وخلق الوظائف لهم، أم سنتابع مسار تصديرهم للخارج، ونعمّق بالتالي أزمة البنية الاجتماعيّة؟

 

مصدر"المدن"
المقالة القادمةفنزويلا تحوّل إلى بنك روسي عائدات مشروعات نفطية