يستمر الصراع السياسي القائم على عدّة ملفات وعلى رأسها أحداث قبرشمون، بتعطيل إجتماعات الحكومة اللبنانية مُخلّفًا أضرارًا كبيرة على الصعد الإقتصادية، المالية والإجتماعية. نعم الأضرار كبيرة والمسؤولين يعون ذلك ويعون أهمّية إعادة تفعيل العمل الحكومي، إلا أن الظاهر أن هناك عوامل خارجية تمّنع هذا الأمر إذ لا يُعقل أن تقبل القوى السياسية بالإطاحة بالكيان اللبناني كثمن لعدم تراجع الفريقين عن مواقفهما الحادّة. في الواقع هذه الفرضية مدّعومة بالتصعيد الكلامي الأخير للأفرقاء والذي يدّل على أن المعركة في وادٍ والتصاريح في وادٍ أخر.
حقيقة الواقع الإقتصادي والمالي للدّولة اللبنانية تُشير إلى أن هامش التحرّك يضيق مع الوقت. وبحسب وزير المال على حسن خليل، فإن وكالة التصنيف الائتماني «ستاندارد آند بورز» ستعمد إلى إصدار تحديث لتصنيف لبنان الإئتماني في 23 آب 2019 حيث تُشير المعلومات إلى إحتمال خفض تصنيف لبنان الإئتماني من «B- » الى «CCC+» وهو ما ينقل تصنيف سندات الخزينة اللبنانية بالعملة الأجنبية (Eurobonds ) من خانة الإستثمارات ذات «مخاطر عالية» إلى خانة «مخاطر كبيرة». وهنا تكمن مخاوف المواطن اللبناني الذي يتساءل: ماذا سيحّل بلبنان إذا ما عمدت «ستاندارد آند بورز» إلى خفض تصنيف لبنان الإئتماني؟
خفض التصنيف الإئتماني للبنان سيكون له تداعيات على سعر فائدة الإقتراض للدوّلة اللبنانية والمصارف اللبنانية أيضًا. وهذا الأمر سيزيد من الضغط على المالية العامّة في وقت أكثر ما يحتاجه لبنان هو الإسراع في نشر موازنة العام 2019 وإقرار مشاريع سيدر التي سيتمّ رفعها إلى الدولّ المّقرضة لطلب تمويلها.
فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وعلى الرغم من تحفظه على المادّة 80 من الموازنة ووعيًا منه لخطورة الوضع المالي والإقتصادي، وقّع قانون موازنة العام 2019 وتُنشر في الجريدة الرسمية في عدد خاص حمل الرقم 36. هذا الأمر يحلّ مُشكلة الموازنة ويبقى أمام مشاريع سيدر مُشكلة إجتماع الحكومة التي إذّ لم تلتئم قبل الثالث والعشرين من الشهر الجاري، ستأخذ التداعيات المالية أبعادًا أخرى.
الوضع الإقتصادي
الوقائع تُظهر أن خفض الإنفاق العام هذا العام أتى نتيجة قرار بوقف دفع الأموال بإستثناءالأجور وملحقاتها، خدمة الدين العام والمُستحقات الخارجية أي بمعنى أخر كل المُستحقات الداخلية (بإستثناء الأجور) لا تدفعها الدوّلة! هذا الأمر يعني أن هناك مُشكلتين ستنتج عن هذا القرار:
أولًا – هناك ضرب واضح للإقتصاد بحكم أن حجم الدوّلة هائل في الإقتصاد إذ هي رب العمل الأول في لبنان وإنفاقها أساسي للقطاع الخاص الذي يؤمّن لها الخدمات والسلع خصوصًا المشاريع التي تمّ تأجيلها في الموازنة (»قوانين البرامج»). والتوقفّ عن الدفع (أو بالأحرى التأخّر عن الدفع) سيدفع بالعديد من المورّدين إلى الإفلاس أو في أحسن الأحوال إلى طرد موظفين مما يُفاقم الوضع الإقتصادي الذي أصبحنا شبه أكيدين أن نموّه لن يتجاوز الصفر.
ثانيًا – تأجيل الدفعّ هذا العام إلى العام المُقبل يعني أن المُستحقات في العام 2020 ستكون أكبر بكثير وسيؤدّي ذلك إلى رفع العجز في موازنة الـ 2020 إلى مستويات عالية تتخطّى بكثير ما هو منصوص عليه في مؤتمر سيدر! هذا الأمر يضع الحكومة في العام 2020 أمام خيار أوحد ألا وهو رفع الضرائب بشكل كبير لسدّ العجز الناتج عن إرتفاع النفقات.
على كل الأحوال، هناك غياب واضح لمعالجة مُستدامة لمسألة العجز في موازنة العام 2019 إذ أن الإجراءات خفّضت (أقلّه على الورق) العجز في العام 2019 فقط! وهناك «إستحالة» أن يتمّ المُحافظة على هذا المستوى من العجز في موازنة العام 2020 من دون رفع الضرائب أو مُعالجة مكامن الفساد الحقيقية الكامنة في الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد، قطاع الكهرباء، التهريب الجمّركي، التهرّب الضريبي، الفساد في الإدارات العامّة وغيرها من الملفات التي تُحمّل الخزينة أعباء لا قدرة لها على تحمّلها. بإختصار موازنة العام 2020 يجب أن تحملّ عنوان «قدسية المال العام».
المؤشرات الإقتصادية لهذا العام لا تُبشر بالخير خصوصًا من ناحية الإستيراد حيث بلغ حجمه في الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي 8.76 مليار دولار أميركي (أي ما يوازي 21 مليار دولار أميركي كمعدل سنوي)، في حين بلغ حجم التصدير على الفترة نفسها 1.45 مليار دولار أميركي ليكون بذلك عجز الميزان التجاري خلال هذه الفترة 7.3 مليار دولار أميركي أو بمعنى أخر نسبة الصادرات إلى الواردات هي 16.5% بعدما كانت تُقارب الـ 66% قبل الحرب الأهلية! أمّا من ناحية ميزان المدّفوعات فقدّ سجّل عجزًا بلغ 5.18 مليار دولار أميركي على الأشهر الخمّسة الأولى من العام 2019 ليكون بذلك المؤشّر الإقتصادي الأول الذي ستنظر إليه وكالات التصنيف الإئتماني.
ستاندارد آند بورز وتصنيف لبنان
هذه النظرة التشاؤمية لا تُشاركنا فيها وكالة التصنيف الإئتماني ستاندارد آند بورز التي تُظهر على موقعها الإلكتروني مؤشرات عن الواقع الإقتصادي، المالي والنقدي للبنان. هذه المؤشرات تنقسم إلى عدّة فئات: المعطيات الإقتصادية، المُعطيات النقدية، وضع الحكومة المالي، ميزان المدفوعات، الميزانية العمومية الخارجية، والدين العام. وفي كل فئة هناك عدّة مؤشرات منها ما هو أكيد (قبل العام 2017) ومنها ما هو تقديري (2018) ومنها ما هو توقّعات (2019 إلى 2022). وهنا نطرح سؤال يطرحه كل مواطن: هل ستعمد ستاندارد آند بورز نظرًا إلى هذه المؤشرات؟
أولا يجب معرفة أن هناك إحتمال أن يتمّ تحديث هذه المؤشرات التي تعود إلى 11 نيسان 2019 نسبة إلى المعطيات التي حدثت منذ ذلك الوقت. وبفرضية أنه لم يتمّ تحديث هذه المعلومات، هذا ما ستحكم علينا به ستاندارد آند بورز:
أولا – المعطيات الإقتصادية: تتوقّع الوكالة أن يرتفع الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان من 54.89 مليار د.أ في العام 2018، إلى 56.66 مليار د.أ في العام 2019، 58.67 مليار د.أ في العام 2020، 61.15 مليار د.أ في العام 2021، و64.06 مليار د.أ في العام 2022. وهذا الإرتفاع يُعطي نموا حقيقيا بنسبة 0.5% في 2018، 1.2% في2019، 1.5% في 2020، 2% في 2021، و2.5% في 2022.
ثالثا – المعطيات النقدية: ترى الوكالة أن التضخمّ سينخفض هذا العام وفي الأعوام المقبلة (3.2% في 2019، و2.5% حتى 2022) وذلك بحكم رفع الفوائد. وهذه النسبة من التضخم تبقى مثالية في الإقتصادات نظرًا إلى التضخم يقتل النمو الإقتصادي. كما توقّعت الوكالة بقاء سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي على قيمته الحالية في الأعوام القادمة.
ثالثًا – المالية العامة: توقّعت الوكالة إرتفاع العجز في الموازنة إلى 10.7% في نهاية هذا العام ليُعاود الإنخفاض في الأعوام المقبلة إلى 9.8% في العام 2022. ولكن الأهم يبقى أن الوكالة ترى الميزان الأوّلي إلى تحسّن مع تسجيل 0.98% من الناتج المحلّي الإجمالي هذا العام، وأكثر من 1% في الأعوام القادمة (أي ما يوازي 540 مليون د.أ). وترى الوكالة إستقرار في مداخيل الدولة (21% من الناتج المحلّي الإجمالي) وفي إنفاقها (31.5% من الناتج المحلّي الإجمالي). ويبقى المؤشّر الأكثر خطورة هو إستمرار إرتفاع الدين العام نسبة إلى المداخيل مع 678 في العام 2018، 718 في 2019، 743 في 2020، 761 في 2021 و766 في 2022. كما تلحظ الوكالة إنخفاض نسبة الأصول السائلة نسبة إلى الناتج المحلّي الإجمالي مع 22% في 2013 ليكون 16.4% في 2019 و14.5% في 2022.
خامسا – ميزان المدفوعات: ترى الوكالة أن عجز الحساب الجاري نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي سينخفض بشكل طفيف مع 22.47% هذا العام، و20.99% في العام 2022. أمّا في ما يخص إحتياطيات النقد الأجنبي الرسمية (بما في ذلك الذهب بسعر السوق) مطروحاً منها العناصر غير المتوفرة بسهولة لعمليات الصرف الأجنبي وسداد الديون الخارجية (الإحتياطيات المرهونة، خسائر السوق مقابل الاحتياطيات المباعة بعقود أجلة، الاحتياطيات المودعة لدى الفروع الخارجية للمؤسسات المالية المحلية، القاعدة النقدية السيادية مع ربط ثابت طويل الأمد)، مقسومة على الواردات الشهرية من السلع والخدمات، زائد دخل العامل الأجنبي وتحاويل المغتربين اللبنانيين، فترى الوكالة أنها ستنخفض مع الوقت من 8.78 شهر في العام 2018 إلى 3.81 شهر في العام 2022. على صعيد الإسثمارات الأجنبية المباشرة، ترى الوكالة أنها سترتفع من 2.8% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2018 إلى 3.5% هذا العام و3.8% في العام 2022 وأغلب الظن بسبب أموال مؤتمر سيدر.
من جهة عجز الميزان التجاري، تلحظ الوكالة إستمرار العجز على ما هو عليه بحدود 28.5% من الناتج المحلّي الإجمالي في الأعوام المُقبلة. لكن هذا المؤشر الذي يعود إلى 11 نيسان 2019، لا يأخذ بعين الإعتبار الرسم 3% الذي فرضته موازنة العام 2019 على إستيراد البضائع الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة وهو ما سيُخفّض حكمًا هذا العجز وبالتالي سيؤثّر إيجابًا على مؤشرات ميزان المدّفوعات.
سادسا – الميزانية العمومية الخارجية: تلحظ الوكالة أن إجمالي الدين الخارجي زائد رصيد الاستثمار المباشر والاستثمار في محافظ الأسهم والأوراق المالية من الخارج، ناقص منها إجمالي الأصول الخارجية، سيكون سلبيًا هذا العام (20.28%) والعام المُقبل (6.13%) ليتحوّل إلى إيجابي في العام 2021 (7.08%) و2022 (18.5%). أمّا فيما يخصّ الدين الخارجي قصير الأجل حسب الاستحقاق المتبقي نسبة إلى إيصالات الحساب الجاري، فترى الوكالة أن هذا الرقم سينخفض من 141.55% هذا العام إلى 138.74% في العام 2022.
سابعا – الدين العام: تتوقّع الوكالة إرتفاع إجمالي الاقتراض التجاري على الأمد البعيد من 18.6 مليار دولار أميركي في العام 2018 إلى 19 مليار دولار أميركي في العام 2019. كما أن الدين بالعملة الأجنبية سيرتفع من 42.2% من إجمالي الدين إلى 45% مع بقاء الدين على الأمد القصير على مستوى ثابت حول 2.5% من إجمالي الدين.
هل سينخفض تصنيف لبنان الإئتماني؟
مما تقدّم، نرى أن هناك مؤشرات إيجابية ومؤشرات سلبية ويختلف وزنها في حساب التصنيف النهائي بحسب الوزن الذي تُعطيه الوكالة لكل مؤشر. وبالتالي الإحتمال الأكبر هو الإبقاء على تصنيف لبنان الإئتماني على ما هو عليه أي «B- » مع «نظرية مستقبلية سلبية».
إلا أن هناك مؤشر أخر لم نذكره في ما سبق وهو مؤشر الثبات السياسي والذي يلعب دوّرًا أساسيًا في تصنيف لبنان الإئتماني (وعادة في كل الدول التي لا تتمتّع بثبات سياسي). وقّع رئيس الجمهورية موازنة العام 2019 ونشرت في الجريدة الرسمية في عدد خاص، وهذا أمر إيجابي بالنسبة إلى تصنيف لبنان الإئتماني. إلا أن المُشكلة الكبيرة والتي ستلعب الدوّر المحوري هو تعطيل الحكومة وعدم عقدها جلسات لإقرار مشاريع سيدر ووضع خطّة إقتصادية. وهذا الأمر يفتح الباب أمام سيناريوهين: الأول خفض تصنيف لبنان الإئتماني إلى «CCC+ » مع «نظرة مُستقبلية مُستقرّة» (في حال إلتئمت الحكومة قبل موعد صدور التقييم)، والثاني خفض تصنيف لبنان الإئتماني إلى «CCC+ » مع «نظرة مُستقبلية سلبية» (في حال لم تلتئم الحكومة قبل موعد صدور التقييم).
على كلّ الأحوال، الأسواق المالية إستوعبت إحتمال تخفيض تصنيف لبنان الإئتماني وبالتالي نرى أن تداعيات هذا الأمر ستكون محدودة مع إرتفاع بسيط في كلفة خدمة الدين العام وكلفة إقتراض المصارف اللبنانية.