في معزل عن الخلافات حول شكل الحكومة المنتظرة، إلا أن ولادتها لا تبدو بعيدة إذ ربّما تبصر النور قبل نهاية الأسبوع الحالي بحسب التسريبات، التي تفيد كلّها بأنّ الملف الحكومي بات في خواتيمه، وبأنّ العقدة المتبقية هي عقدة تمثيل الكتل المسيحية، وتحديداً: كتلة “القوات اللبنانية”.
أعاد الحديث عن قرب ولادة الحكومة العتيدة المنتظرة، “نبش” الملفات الاقتصادية كلّها من جديد. إذ عدنا نسمع بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي مجدداً، وبهيكلة المصارف، وبموازنة العام 2025… إضافة إلى مواضيع اقتصادية أخرى، البحث عن حلول لها بات أمراً أكثر من مهم في ظلّ الظروف الاقتصادية الحالية. إلاّ أن السؤال الذي يُسأل اليوم: هل ستتمكّن الحكومة، وفق التشكيلة المسرّبة، ووفق أسماء وزرائها من إتمام الإصلاحات؟
قبل الإجابة على هذا السؤال المُلحّ، لا بدّ من الإشارة إلى مجموعة من المغالطات الكبرى في الشأن الاقتصادي والنقدي، والتي أمست في منزلة شعارات شعبوية يستخدمها بعض النواب والسياسيين بلا حسيب ولا رقيب، وتمرّ على الرأي العام بسلاسة من دون أي تصويب أو تصحيح، ومن بين تلك المغالطات نذكر التالي:
– المغالطة الأولى: إن تشكيل الحكومة سيكون بداية لهبوط سعر صرف الدولار. هذا الكلام يفتقد إلى الدقة وهو من باب إطلاق الشعارات الزائفة، لأنّ ضرائب ورسوم الدولة اللبنانية مقدّرة كلّها على سعر الصرف الحالي (89600 ليرة) وبالتالي، فإنّ هبوط سعر الصرف سوف يعني حكماً انخفاضاً في إيرادات الدولة. أضف إلى هذا، فإن رواتب القطاع العام يدفعها مصرف لبنان بالدولار الأميركي، وهي بدورها “مقرّشة” على سعر الصرف المذكور. أي أن موظفاً راتبه 18 مليون ليرة لبنانية سيقبض نهاية كل شهر 200 دولار أميركي. لكن إذا انخفض سعر الصرف إلى 50 ألف ليرة للدولار الواحد مثلاً فإنّ راتب الموظف نفسه سيمسي قرابة 360 دولاراً. أي سيرتفع بنحو 45% وهذا الأمر سيؤثر حكماً على خزينة الدولة. وعليه، فإن استقرار سعر الصرف هو استقرار للقدرة الشرائية الخاصة بموظفي القطاع العام وبكل مواطن لبناني ما زال يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية.
– المغالطة الثانية: إنّ مصرف لبنان يمنع الحكومة من الإنفاق. تلك الحُجة باتت “مضحكة” ولا تمرّ إلاّ على السذّج. لكن المؤسف أنّ بعض النواب لا ينفكون عن تردادها في خطاباتهم ومجالسهم وبياناتهم من دون بذل أيّ جهد أو عملية بحث عن التفاصيل (منهم على سبيل المثال النائب ابراهيم منيمنة). يفوت هؤلاء أنّ مصرف لبنان يحجب الليرات “الكاش” عن القطاع المصرفي، وبذلك يدفعه إلى الحصول على الليرات من عملائه ووفق “كوتا” محدودة لكل مصرف. يفوتهم أنّ تلك السياسة مرتبطة وظيفياً بالاستقرار الذي ذكرناه أعلاه. كما يفوتهم، وهذا المهمّ، أنّ أيّ قرش تُنفقه الحكومة اللبنانية أو إدارات الدولة لا بدّ أن يمرّ بـ “عقد نفقة”، وبالتالي فإنّ الفائض في الجباية لا يعني أبداً، ولا بأي شكل، فائضاً في الإنفاق إلا بموجب ما هو مدوّن من نفقات في الموازنة. أي في موازنة العام 2024، ولاحقاً في موازنة العام 2025.
وعليه، فإنّ القول إن مصرف لبنان يمنع الإنفاق هي تهمة قد تتكرّر حتى لو عيّنت الحكومة العتيدة حاكماً جديداً لمصرف لبنان. لأنّ تغيير هذه السياسية لا بدّ أن يسبقها الكثير من الإصلاحات والجهد لإعادة الاعتبار إلى الليرة اللبنانية. بل لا مبالغة في القول إن التخلّي عن تلك السياسة سيكون بحاجة إلى عملة جديدة (شطب أصفار من القديمة أو أسلوب دفع جديد مبتكر: عملة رقمية مثلاً).
– المغالطة الثالثة: إنّ المصارف وحدها تتحمّل مسؤولية الأزمة الاقتصادية، وهذا الشعار الشعبوي بات في منزلة “فحص دم” يجريه الشعبويون لأيّ شخص يعلن عن نفسه مشروع رئيس حكومة أو وزير. ويطالبون بالاعتراف بتلك الحقيقة المشوّهة، وشيطنة كل من يقول بخلافها. لا. بل قطعاً لا، المصارف لا تتحمل منفردة مسؤولية الأزمة. قد يكون قد طالها التقصير في إطلاق الحوار مع مودعيها. قد يكون بعضها تعامل مع الأزمة بمعايير مزدوجة لناحية تحويل الأموال لبعض النافذين إلى الخارج في مرحلة من مراحل الأزمة، إلاّ أنّ المسؤولية تتوزّع على 3 جهات رئيسية، وهي: السلطة السياسية التي كانت ترى كل ارتكابات مصرف لبنان وتصمت عنها، ومصرف لبنان الذي كان يستدين الأموال من المصارف لصالح الأولى، والمصارف التي غرقت مرغمة في الهندسات المالية التي فرضها مصرف لبنان عليها… وأخيراً بعض المودعين الجشعين، خصوصاً أولئك الذين يعرفون أنّ الزيادة في الفوائد زيادة في المخاطر، وبرغم ذلك آثروا الغوص بتلك الفوائد والاستفادة منها. كل هذا يعني أنّ المسؤولية مشتركة (ولو بنسب مختلفة) بين الأطراف الأربعة (المودعون بنسبة محدودة جداً). وبالتالي فإنّ أي حلّ لا ينطلق من مبدأ توزيع المسؤولية، ثم توزيع الخسائر لن يبصر النور أبداً مهما حاول البعض الترهيب.
– المغالطة الرابعة: إن عودة التسليف جريمة في حق المودعين. هذا الطرح يتعرّض لـ “إطلاق النار” من جهات كثيرة تعتبر أنّ الأولوية للمودعين، وهذا غير صحيح. يفوت هؤلاء أن المصرف إذا لم يستطع تحقيق بعض الأرباح لن يتمكن من إعادة الودائع لأصحابها، خصوصاً إذا كان متوقفاً عن التسليف. وعلى هذا المنوال، لا يخبرنا أصحاب هذا الرأي كيف سيتمكنون من النهوض بالاقتصاد مجدداً من دون القطاع المصرفي (باعتبار أنّ كل القطاع غارق في الأزمة)، خصوصاً بعد الحرب الاخيرة وشحّ الأموال. هؤلاء أنفسهم يحاولون التحايل على الحقائق من أجل فرض واقع جديد يفضي، بتصوّرهم، إلى منح تراخيص لمصارف جديدة، ظناً منهم أنّ المستثمرين الجدد يتوقون لدخول “المعترك المصرفي” اللبناني على علاته، حيث لا نظام قضائياً شفافاً ومحايداً، ولا استقرار سياسياً ولا حتى أمنياً… فمن أين سوف تأتون بالمستثمرين؟
– المغالطة الخامسة: إنّ حكومة نواف سلام قادرة على إنجاز الإصلاحات. هذا الأمر تعتريه الكثير من الشكوك. لأنّ التسريبات تفيد بأنّ الحكومة لن تكون بخلاف سابقاتها، وهي نسخة مصغرة عن البرلمان وتوازناته. وبالتالي فإنّ الخلافات حول العناوين الاقتصادية الكبرى التي حال المجلس النيابي دون تبنّي اقتراحات ومشاريع قوانينها، سوف تنتقل حكماً إلى داخل الحكومة الجديدة. ناهيك عن الأزمات العالمية المستجدة بعد وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وأولها أزمة التعريفات الجمركية التي ستجعل العالم كله في حالٍ من الصراع الاقتصادي، وربما نكون بنتيجته في آخر سلّم الأولويات العالمية، وهو بدوره سيجعل مسألة المساعدات والهبات من سابع المستحيلات في ظل وضع كهذا.