قرر عبدالرزاق الحموي (أبو ابراهيم) النزول إلى السوق وفتح محل الخياطة الذي ورثه عن أبيه يوم الأحد رغم كونه يوم عطلة لدى الكثيرين من أصحاب المصالح،على أمل أن يسترزق في ظل ظرف إقتصادي صعب صارت فيه العطلة من الممنوعات في أسواق طرابلس. فتح الحموي محله عند الثامنة صباحاً وستمر بالعمل حتى الواحدة والنصف ظهراً لم يخرج بأكثر من تبادل أطراف الحديث مع بعض الجيران من أصحاب المحلات والأصدقاء ثم أقفل محله وعاد أدراجه باتجاه المنزل.
ويمثّل خان الخياطين أو سوق الخياطين في طرابلس، شاهداً على ذاكرة المدينة وتراثها وعراقتها. تاريخياً شيد الخان في القرن الرابع عشر (ميلادي) في زمن المماليك، الذين حرصوا على إيجاد سوق خاص بالخياطين للحفاظ على مهنة الخياطة وصناعة النسيج وتأمينها، حيث كانت تشتهر بها مدينة طرابلس والتي تعتاش منها عائلات كثيرة من أبنائها. وكان بناء سوق الخياطين من طبقتين الأولى لعرض الألبسة والأقمشة، أما الثانية فكانت بمثابة فندق للنزلاء الذين يأتون من خارج طرابلس لا سيما من الشام وغيرها، قاصدين الألبسة والأقمشة الطرابلسية العريقة. أوضاع الخان اليوم لا تشبه أوضاعه في زمن إنشائه ولا حتى قبل 40 أو 50 عاماً أو حتى أقل من ذلك بكثير. يقول عبدالرزاق الحموي: “كان عمري 8 سنوات لحظة بدأت أتردد إلى الخان مع والدي الذي كان يملك محلاً للخياطة في هذا الخان. ورثت المحل عنه لكنّ الظروف تغيّرت عن السابق وتراجعت الأوضاع الى الأسوأ”.
أضاف: “كان في الخان على وعيي في السبعينات عشرات الخياطين يصنعون الألبسة العربية (الشروال) والألبسة الإفرنجية (البدلات)، وكذلك كافة أنواع العباءات والألبسة النسائية في حينه، وكان الناس يقصدون الخان من مختلف المناطق من لبنان وخارجه لصيته ومصنوعاته المتقنة قبل ان يتحول الى سوق لبيع الملابس فقط بعدما افتتحت فيه بعض محلات بيع الألبسة الجاهزة، والقلة ممن تبقى من الخياطين قررت إقفال محلاتها في السنوات الأخيرة، نظراً للأوضاع الإقتصادية التي تسير من سيئ إلى أسوأ فضلاً عن انتشار محلات الخياطة في أكثر من شارع وسوق وليس كما كان الأمر في السابق، حيث لكل مهنة سوقها في طرابلس”. وبفعل الأزمة الإقتصادية الأخيرة وارتفاع سعر صرف الدولار قضي على السوق بالكامل، حيث “كنا في السابق نشتري قماش العباءة مثلاً بعشرة دولارات أي 15 ألف ليرة لبنانية فنقوم بتطريزها وبيعها بحدود 30 ألف ليرة لبنانية.. الآن أصبحت العشرة دولارات تساوي 85 ألفاً. فبكم سنشتري وبكم سنبيع؟”.
ويختم الحموي والحسرة بادية في كلامه: “كنا في السابق ننتظر يوم الأحد للإستراحة من تعب العمل، فصرنا نفتح طلباً للرزق. سبحان الله فكل الأيام مثل بعضها، والعمل إلى تراجع. بتنا نفتح المحل طوال النهار لتصليح بنطلون أو درزة صغيرة، أو تركيب سحاب. للأسف ليست هذه مهنة الخياطة وليس هذا أساسها، بس كان يا ما كان في خان الخياطين وفي مهنة خياطة”.
في خان الخياطين اليوم، مطاعم للفول والحمص، وبعض الخياطين الشباب الذين لا يعرفون الكثير عن تاريخ الخان الذي يعملون فيه، ومنهم من ورث المهنة عن أبيه الذي ورثها عن جده، وعندما تسألهم عن خياط يعرف الخان وتاريخه، يشيرون مباشرة باتجاه محل “عبدالرزاق الحموي”. يُذكر أن أوضاع سوق الخياطين الطرابلسي تشبه إلى حد بعيد أوضاع جميع الأسواق الطرابلسية التاريخية العريقة، والتي تشهد تراجعاً في الدور والأداء والعمل بسبب ما تمر به طرابلس من أزمات اقتصادية ومعيشية واجتماعية صعبة.