قطعَ لبنان شوطاً طويلاً في رحلته نحو الخروج من أزمته الاقتصادية والنقدية. وهو بذلك، مقبلٌ على خفض معدّلات البطالة والفقر، خصوصاً وأن رواتب الموظفين ستأخذ بالتحسّن قريباً. أما خدمات الدولة، فهي الأخرى في طريقها نحو التعزيز، بدءاً من الكهرباء التي تزور البيوت بمعدّل يقرب من 4 ساعات غير منتظمة!
هذا التفاؤل طبعته السلطة السياسية ببيانات تغيَّرَت في الشكل وحافظت على مضمونها منذ العام 2018، حين بدا السقوط أكثر وضوحاً وأقرب إلى التحقُّق. ولم تكن محاولة فرنسا في مؤتمر سيدر، سوى عملية إنعاش اصطناعية لم تُثمر. لكن لغة البيانات استمرَّت أمام مجتمع دولي يعرف الكثير من التفاصيل التي غَضَّ الطرف عنها منذ ما قبل العام 2018. ومع ذلك، ما زالت محاولات السلطة السياسية قائمة. وليس آخرها في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
ضربة ثنائية في دافوس
للبنان تجربة غير سارّة في دافوس. فللمرة الثانية يقدِّم لبنان صورة سلبية عن طريقة إدارته للأزمة، في حين أن المجتمع الدولي ينتظر في كل عام، أسلوباً مغايراً. فيعرف الجميع أن لبنان لم يلتزم بالإصلاحات المطلوبة حين كان الوقت متاحاً للحل، بدءاً من تقييد سلطة المصارف، إلى التدقيق بالأموال الداخلة إليها والخارجة منها، سيّما المتعلّقة بالسياسيين وكبار رجال الأعمال، وعلى رأسهم متعهّدوا الأشغال العامة، وصولاً في العام 2019 إلى إصدار قانون الكابيتال كونترول وتنظيم سحوبات الودائع والحفاظ على انتظام العلاقة مع المصارف المراسلة.. لكن دون جدوى.
وعليه، لم يُقنِع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الوفود التي حضرت مؤتمر دافوس بين 16 و20 كانون الثاني. فكيف لبلد لم تُجرِ سلطته السياسية إصلاحات تدير أزمة متسارعة منذ نحو 4 سنوات، أن يوقِف الانهيار ويبدأ بمرحلة الانتعاش والصعود، وفق ما أكّده ميقاتي خلال مقابلة تلفزيونية على هامش المؤتمر. علماً أن البنك الدولي رأى أن ما قام به مصرف لبنان عقب انتهاء ولاية حاكمه السابق رياض سلامة، لا يعدو كونه “إصلاحات محدودة”، لكنها مع ذلك “مشجّعة”. على أن التشجيع لا يكتمل إلاّ بـ”تغييرات جوهرية” تطار المصارف وسعر صرف الليرة، وهو ما تعجز السلطة السياسية عن إجرائه.
هذا العجز التُمِسَ قبل نحو 4 سنوات. ومن دافوس أيضاً، ارتسمت الابتسامة الصفراء على وجه وزير الخارجية آنذاك جبران باسيل، حين عجزَ عن مواجهة الأسئلة التي أطلقتها الصحافية الأميركية هادلي غامبل، والتي دلَّت على عدم الثقة الدولية بالسلطة السياسية اللبنانية. حينها، استطلعَت غامبل آراء الجمهور الحاضر في الاستديو، حول فرص نجاح الحكومة اللبنانية في إخراج لبنان من أزمته، ولم يكن أحد من الحاضرين متفائلاً في قدرة الحكومة، ما خلا صوت أو صوتين. وللتدليل على عقم الطبقة السياسية، سألت غامبل باسيل عن وسيلة النقل التي استقلّها للوصول إلى دافوس، منتقدة امتلاكه طائرة خاصة فيما راتبه كوزير لا يتجاوز الـ5 آلاف دولار حينها. وبين دافوس 2020 ودافوس 2024، ضربتان أعادتا التذكير بمؤشرات سابقة.
من “سيدر” إلى الطريق المسدود
الكثير من البيانات والتصريحات الإيجابية التي أطلقها السياسيون اللبنانيون، لم تتوافَق نتائجها مع ما يُطبَّق على أرض الواقع.
بدءاً من نيسان 2018، كان الانهيار الاقتصادي قد بات واضحاً، فسارعت فرنسا لإجراء عملية إنقاذ سريعة مستخدمة الطقم السياسي نفسه. فنجح مؤتمر سيدر في حجز نحو 11 مليار دولار كان يفترض بها إنعاش الاقتصاد. لكن الدول المانحة اشترطت الكثير من الإصلاحات قبل الدفع. ورغم الوعود اللبنانية بطيّ صفحة الماضي والانطلاق نحو المستقبل بإصلاحات جديدة وتطوير فرص الاقتصاد وخلق فرص عمل، كان الضغط يزداد نزولاً نحو الهاوية.
بعد نحو 9 أشهر من سيدر، كان لبنان على موعد مع القمة العربية التنموية في مطلع العام 2019. فكانت الرسالة واضحة، فالدول العربية خفَّضَت تمثيلها الدبلوماسي في القمّة. وبدل تحسُّس هذه الخطوة من الداخل اللبناني، قلَّلَ باسيل من أهمّية الرسالة، معتبراً أن التخفيض “حق لكل دولة وليس لأحد منّا أن يعلّق على الموضوع”. وعدم التعليق، يحمل في طيّاته إنكار الأسباب الحقيقية التي تتّصل برفض الدول العربية لما يحصل في لبنان من سوء إدارة على المستوى السياسي والاقتصادي.
استمرَّ إنكار مؤشِّرات الأزمة الاقتصادية، حتى بعد انفجارها في تشرين الأول 2019. وبدل تدارك الوضع، عادت المحاولات الفرنسية لتدعيم موقع السلطة السياسية، وتجلَّت بزيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى لبنان عقب تفجير مرفأ بيروت في آب 2020.
وحتى نهاية العام 2021، كانت الأزمة قد ثبَّتَت أوزارها، فما كان من مدير دائرة المشرق في البنك الدولي، ساروج كومار جاه، أن أكّد في كانون الثاني 2021، أن البنك وصل مع السلطة في بعض الأمور “إلى طريق مسدود”. وأبدى خشيته من أنه “لن يبقى هناك أحد لتحقيق التنمية من أجله”.
تجاهر السلطة السياسية بفشلها في إنقاذ الوضع. ومع ذلك، لا تترك فرصة إلاّ وتستغلّها لإطلاق شائعات إعلامية لتمرير رسائل مفخَّخَة حول الإصلاح والخروج من الأزمة. وليس هناك أوسع من باب أموال المودعين في المصارف، فهذه ورقة تملك قوة معنوية أمام المجتمع الدولي والمحلّي، لأنها تطال شريحة كبيرة من المواطنين. لكن ما هو مطروح حالياً في هذا الملف، ليس سوى محاولات مشوّهة لإعادة الودائع التي تقلّ قيمتها عن 100 ألف دولار، مع غموض آلية الإعادة. وكل ما هو واضح في هذا السياق، هو الدفع نحو حلّ الأزمة على الورق وفي بيانات المؤتمرات فقط، تمهيداً للاتفاق مع صندوق النقد الدولي على مساعدات بقيمة 3 مليار دولار، فيما يؤكّد البنك الدولي منذ العام 1999 على ضرورة معالجة الفساد والتوجّه نحو الجمارك وتحصيل الضرائب، حيث يمكن توفير بين 6 و8 مليارات دولار سنوياً.