نشر موقع «صفر» ورقة أعدّها الخبيران اسحق ديوان وهنري شاوول تحت عنوان «لبنان في خطر… الطريق الوعِر نحو مسارٍ جديدٍ للنموّ» وجاء في خلاصتها أن السبب المُتجذّر للأزمة الماليّة اللبنانيّة هو تثبيت سعر الصرف الذي استمرّ لفترة طويلة. لكنّ انهيار نموذج العيش على عاتق حساب رأس المال يُعدُّ بمثابة فرصة نادرة لإعادة بناء الاقتصاد على أسس أكثر ثباتاً وإنتاجيّة واستدامة. وفي ما يلي نص خلاصة الورقة:
يعود تعمّق الأزمة الحالية وطولها إلى تهرّب النخب السياسيّة من توزيع الخسائر وتنظيف النظام المالي. لم تتمكّن الشركات من تحويل الإنتاج نحو التصدير في ظلّ انعدام إمكانيّة الحصول على قروض، وأدّى هروب رؤوس الأموال إلى تفاقم الأزمة.
بالتوازي مع الأزمة الماليّة المُستمرّة، تتسبّب الأزمة الاجتماعيّة وأزمة الدولة في الأضرار نفسها، وبالتالي تتطلّبان الاهتمام نفسه، ما قد يؤدّي إلى مساومات ماليّة صعبة. لكن، إذا تُرِكت هذه الأزمات من دون معالجة فقد تعيق مسار التعافي. إن الدفعة المُحفِّزة هي الطريقة الفضلى للخروج من الأزمات بالتزامن. وهذا يتطلّب برنامجاً وطنيّاً مُقنعاً مع دعم محلّي واسع وتمويل خارجي كبير. لكن هذه المُهمّة صعبة سياسيّاً في الظروف الحالية. وهناك حاجة إلى تقديم استراتيجيّة أكثر توازناً للجهات المانحة، تتضمّن إجراءات للحفاظ على الخدمات الأساسيّة وإمكانيّة نهوض المجتمع.
أزمة ثلاثيّة عميقة
ينهار الاقتصاد اللبناني، المُفخَّخ بعيوبٍ هيكليّة منذ عقود، منذ العام 2019؛ انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي بشكلٍ كبيرٍ من نحو 11 ألف دولار في العام 2018 إلى أقل من 4 آلاف دولار في العام 2022، وهذا ما يُعدّ أحد أقسى التعديلات الاقتصادية التي يشهدها بلدٌ ليس في حالة حرب. بحلول أوائل العام 2023، كانت البلاد غارقة في أزمة ديون مع تجاوز الدَّيْن الحكومي نسبة 180% من الناتج المحلّي الإجمالي، وفي أزمة مصرفيّة مع عجز المودعين عن سحب أموالهم، وفي أزمة ميزان المدفوعات مع انخفاض قيمة العملة المحلّيّة بنسبة 98%. شهدت ركائز الاقتصاد – السياحة والتعليم والرعاية الصحّيّة – إغلاقاً للعديد من المؤسّسات وهجرة الأدمغة.
لم تقم ثلاث حكومات مُتعاقبة بأي إجراءات من أجل تحقيق الاستقرار. السقوط مستمرٌّ إنّما بوتيرة أبطأ. وحتّى لو استقرّ الاقتصاد، يبقى المسار الحالي كارثياً بالنسبة للمستقبل؛ فالطبقة الوسطى تنحسر، ورأس المال المؤسَّسي والبشري والمالي يتبخّر، والبنية التحتيّة تضمحلّ، فيما البلاد مُعرَّضة لخطر الوقوع في مصيدة الفقر المُدقع على الرغم من إمكاناتها الغنيّة.
نحاول في هذه الورقة دفع النقاش في اتجاهات عديدة، مع وجود تداعيات سياسيّة مهمّة على الجهات الفاعلة محلّياً وخارجياً حول كيفيّة استعادة الاستقرار وبدء التعافي. لكن من خلال التركيز على كيفيّة تعظيم حجم الكعكة الاقتصاديّة، نأمل في أن تصبح «السياسة» أكثر تشاركيّة من أجل تحقيق مصلحة الجميع. أولاً، لأنَّ مشاكل لبنان الاقتصاديّة مُعقّدة وغير مفهومة جيّداً. ولذلك، يُعدُّ فهمها شرطاً ضرورياً لحلّها. ثانياً، لأنّ من الضروري الدفاع عن الحلول التشاركيّة، لا سيّما بعد أن برزت الكلفة الباهظة للسلوك غير التشاركي، ولو أنّ تنفيذ هذه الحلول صعبٌ وسط بيئة سياسيّة مُجزّأة. أخيراً، لأنّ من المفيد إيضاح أن ثمّة إمكانات لإحداث تقدّم اقتصادي، لما لذلك من أثر على تشجيع الناشطين السياسيين للضغط من أجل إحداث تغيير جذري في النظام في حال عدم العثور على حلول ضمنه.
أسباب الأزمة
يطغى العديد من السرديّات حول سبب الأزمة، لكن السرديّة الأكثر إقناعاً، بالنسبة لنا، هي الأقل فهماً. في تحليلنا، يرتبط السبب الجذريّ للأزمة الحالية بالإفراط في رفع قيمة العملة المحلّية والدفاع المُكلف عن تثبيت سعر الصرف لمدة طويلة جدّاً. استمرّ نموذج ما بعد الحرب الأهليّة لمدّة عقدين بعد نفاد صلاحيّته بسبب الافتقار إلى صنع السياسات الحاسمة. إنّ التخفيض المُبكر لقيمة العملة كان سيشجّع الاستثمار ويقلِّص الدَّيْن الحكومي، ما يسمح باستخدام تدفّقات رأس المال بإنتاجيّة أكبر، والبحث المُبكر عن مسارٍ للنموّ أكثر استدامة يعتمد على الإنتاجية والتصدير بدلاً من الاستهلاك المُفرط والائتمان غير المُستدام.
على سبيل المثال، بلغ عجز الحساب الجاري نحو 25.5% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2018، وقد نتج بالتساوي عن عجز في القطاع العام (11.1% من الناتج المحلّي الإجمالي) وعجز في القطاع الخاص (14.3% من الناتج المحلّي الإجمالي). يتكوّن عجز القطاع الخاص نفسه من الفرق بين معدّل استثمارٍ متواضع (20.4%) ومعدّل ادّخار خاص مُنخفض للغاية (6.1% من الناتج المحلّي الإجمالي). يشمل هذا البند أيضاً الواردات المُتّجهة إلى سوريا وإنّما غير مُدرجة في بيانات إعادة التصدير. وهذه مشكلة مُتكرِّرة في الإحصاءات اللبنانيّة نظراً لوجود حدود طويلة وسهلة الاختراق.
يوضح الشكل 1 تطوّر الحساب الجاري وعجز القطاع العام. واللافت هو امتصاص العجز المالي معظم التدفّقات الوافدة حتّى العام 2007، علماً أن هذا العجز بدأ بالانخفاض بعد العام 2000، فيما توجّهت تدفّقات رأس المال نحو تمويل العجز الخاص بشكل أساسي. تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الفوائد على الدَّيْن العام حوِّلت بشكل أساسي إلى القطاع الخاص المحلّي، ما زاد من نفقاته بشكل أكبر.
لا يزال الدَّيْن العام جزءاً أساسياً من المشكلة، وبالتالي من المفيد فهم ديناميّاته. كان الدَّيْن العام اللبناني «مرتفعاً للغاية» منذ أوائل العقد الأول من الألفيّة الثالثة نتيجة الاندفاعة الكبيرة في استثمارات البنية التحتيّة التي أطلقها رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ووصلت نسبة الدَّيْن العام من الناتج المحلّي الإجمالي إلى 200% عند اغتياله في العام 2005. في الواقع، وضِع رهان سياسي في العام 1993 على الاستفادة من سلامٍ إقليمي من شأنه أن يغمر لبنان بمكاسب سخيّة، وقد غذَّى مسار التعافي الذي قام على برنامجٍ ضخم لإعادة الإعمار مموَّل بالديون. فشل الرهان عندما دُفِنت عمليّة السلام في منتصف التسعينات. ومن حينها، بقيت الاستراتيجيّة الاقتصاديّة قائمة على القيادة التلقائيّة.
شهدت السنوات الخمس التالية معدّلات نمو سريعة في الناتج المحلّي الإجمالي، فيما أدّت الموازنات التقشّفيّة وارتفاع الإيرادات إلى تسجيل فوائض أوّليّة لسنوات عديدة على الرغم من سوء توزيع النفقات الماليّة، والتركيز على دفع الفوائد على الديون، وزيادة عدد موظّفي القطاع العام، ودعم قطاع الكهرباء، على حساب الاستثمار العام في رأس المال البشري والمادي. أدّت الفوائض الأوّليّة ومعدّلات النموّ المُرتفعة إلى انخفاض معدّل الديون إلى 130% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2012 – ومع ذلك، بقي مستوى الدَّيْن مرتفعاً بشكلٍ خطير وفقاً للمعايير الدوليّة. ويوضح الشكل 2 ديناميكيّات مُعدّلات الدَّيْن العام. بعد العام 2011، استمرّ ارتفاع معدّل الدَّيْن ووصل إلى 170% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2018، مدفوعاً بارتفاع أسعار الفائدة من جهة وانخفاض نموّ الناتج المحلّي الإجمالي من جهة ثانية. وقد سُجِّلت هذه المعدّلات على الرغم من تحقيق فائض أوّلي طفيف في العام 2010 بمعدّل 1% من الناتج المحلّي الإجمالي. استمرّ العجز الكلّي في النموّ. ونمت نسبة الدَّيْن بسبب ارتفاع كلفة إعادة التمويل وانخفاض نموّ الناتج المحلّي الإجمالي.
والمقصود هنا بسيط، حتّى لو كان القبول بالانهيار صعباً من قِبَل النظام الحاكم والسكّان الذين أصيبوا بصدمة جرّاء الانهيار الاقتصادي، لكن حان الوقت للقبول بالواقع وبدء المهمَّة الصعبة لإعادة بناء البلاد. أن تأتي هذه الخطوة متأخّرة أفضل من ألا تأتي أبداً. وفي حين أن تداعيات انهيار الاقتصاد الريعي مؤلمة، لكنّ انهياره يشكِّل فرصة تاريخيّة لإعادة بناء الاقتصاد على أرضيّة أكثر ثباتاً.
لماذا الأزمة عميقة جدّاً؟
يرتبط الاستنتاج الرئيسي الثاني بالأسباب التي تشرح مدى عمق الأزمة الحالية. من النادر أن ينخفض الناتج المحلّي الإجمالي لبلدٍ ما بالنسبة نفسها – بين 40 و60% – في خلال أوقات السلم. يعود السبب الرئيسي لهذا الانخفاض الحادّ إلى توقّف نظام الائتمان، بحيث لم تتمكّن الشركات من تحويل إنتاجها من الطلب المحلّي المتهاوي إلى أسواق التصدير، على الرغم من الانخفاض الهائل في قيمة العملة المحلّية وتحسّن تنافسيّتها. في الواقع، انخفضت الصادرات إلى النصف بعد العام 2019!
إنَّ السبب الرئيسي لعدم قدرة صانعي السياسات – أو عدم رغبتهم – في تنظيف القطاع المصرفي بسرعة هو الحجم الهائل للخسائر التي يجب توزيعها. ولوضع الأمور في سياقها، من المفيد إلقاء نظرة على الميزانيّات العموميّة المُجمّعة للمصرف المركزي والدولة والنظام المصرفي، أو Lebanon Inc (الجدول 1).
ولتبسيط الأمر، سُجِّلت الأصول والمطلوبات المُقوّمة بالدولار فقط، خصوصاً أن التضخّم المُفرط خفّض قيمة جميع الأدوات والأصول بالليرة. في خانة الأصول، هناك احتياطيّات الذهب، والعملات الأجنبيّة التي يحتفظ بها مصرف لبنان، ومحفظة البنوك من قروض القطاع الخاص الباقية، وكذلك ما تبقّى لديهم من عملات أجنبيّة، بالإضافة إلى أصول الدولة التي يعتري قيمتها الكثير من الجدل. نفترض في هذه الورقة أن دَيْن الدولة انخفض إلى 20 مليار دولار، وأنه لا يمكن استخدام الأصول العامّة لإنقاذ القطاع المالي. أمّا في خانة المطلوبات، فهناك ودائع النظام المصرفي، والدَّيْن الخارجي للحكومة الذي نقدّر تخفيضه بنسبة 80%. في المحصّلة، يتبيّن أن الخسائر الإجماليّة تقدّر بحوالي 50 مليار دولار، وهذا ما يمثّل نحو 2.5 مرّة الناتج المحلّي الإجمالي الحالي! تفترض البيانات المعروضة شطب جميع رساميل المصارف، التي تبلغ حوالي 22 مليار دولار على الورق. ووفق هذا السيناريو المُحافظ، نوعاً ما، ستحتاج الودائع للخضوع لهيركات بمتوسّط يقل عن 50% بقليل. وهذا ما يعني هيركات أقلّ على الودائع الصغيرة وأكثر على الودائع الكبيرة كما يحدث عادةً من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة.
كيف تُحدّد المسؤوليّات؟
لا تتعلّق الخسائر الماليّة المُتراكمة بالدَّيْن العام فحسب، بل بدفاع المصرف المركزي عن سياسة تثبيت سعر الصرف أيضاً. في لبنان، تُعدُّ الحكومة مسؤولة عن تحديد سياسة سعر الصرف. مع ذلك، كان ينبغي على المصرف المركزي أن يوقف النزيف في وقتٍ مُبكر من خلال رفض الدفاع عن تثبيت سعر الصرف عندما نفدت احتياطيّاته، وقبل بدئه باستخدام أموال المودعين من أجل تثبيت سعر الصرف. بمرور السنين، زادت خسائر المصرف المركزي ووصلت إلى أكثر من 60 مليار دولار. أيضاً دفع المصرف المركزي البنوك التجاريّة إلى وضع معظم سيولتها بالعملات الأجنبيّة لديه عبر عرض أسعار فائدة مُرتفعة بشكلٍ استثنائي، فيما كان يحصل على معدّلات مُنخفضة على احتياطيّاته في الخارج. أدّت هذه الإجراءات إلى بروز عدم اتساق في العملة (currency mismatch) بسبب دفاع المصرف المركزي عن تثبيت سعر الصرف عندما تكون التدفّقات الرأسماليّة غير كافية لتمويل الحساب الجاري، وعن طريق إقراض الدولة بالليرة اللبنانيّة. تقدِّر الخطّة الأخيرة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي خسائر مصرف لبنان بنحو 60 مليار دولار، من ضمنها نحو 50 مليار دولار بالعملات الأجنبيّة.
لا يساعد تمرير الوقت في إيجاد حلّ مالي بل العكس تماماً. ترتبط الفائدة الرئيسيّة لـ»عدم القيام بأي شيء» بعمليّة «الليلرة» المُستهجنة، التي تحمّل المودعين جزءاً من الخسائر عند سحب ودائعهم الدولاريّة بالليرة وفق أسعار صرف تقلّ عن سعر الصرف في السوق. مع ذلك، نقدِّر هذه السحوبات بحوالي 3 مليارات دولار فقط. أمّا الجدير بالملاحظة فهو إنفاق مصرف لبنان حوالي 30 مليار دولار من احتياطيّاته لتمويل هروب الرساميل ودعم الاستيراد. بالإضافة إلى ذلك، سُجِّل انخفاض كبير في محفظة قروض القطاع الخاص وبلغ نحو 30 مليار دولار، وهذا ما أفاد المُقترضين على حساب المودعين، بحيث سُدِّدت القروض الدولاريّة بسعر الصرف الرسمي. بنظرة إلى الوراء، يتبيّن أنّ «سياسة الجمود» لم تكن نتيجة إنكار واقعٍ قاسٍ، وإنّما بسبب السعي النشط وراء الريع من الأطراف التي تستفيد من الوضع الحالي لتحسين مصالحها على حساب مصلحة الناس.
لكن بما أن الاحتياطيّات انخفضت إلى حدّ كبير، ولم يتبقَ الكثير للسطو عليه، فقد حان الوقت لإحداث دفعة سياسيّة قويّة من أجل تنظيف النظام المالي. يُعدُّ تخفيض الدَّيْن العام وتنظيف الميزانيّات العامّة للمصارف شرطاً ضرورياً للاستقرار والتعافي. ومن أجل تسهيل عمليّة استيعاب الخسائر الضخمة من الناحية السياسيّة، يجب أن يكون هناك إبداع في «تجميل» هذه الخسائر. يُمكن ابتكار سند لبناني خاصّ يقضي بفرض هيركات مُتدنٍّ من حيث القيمة الاسميّة، ومنح فوائد مُنخفضة، وتطويل آجال الاستحقاق، وإعطاء ضمانات للمودعين على مكاسب مُختلفة مثل النموّ المستقبلي المتوقّع واكتشاف النفط والغاز. وهذا ما سوف يعطي حوافز للنخب الاقتصاديّة والسياسيّة لتحسين الأداء الاقتصادي.
ثلاث أزمات لا واحدة!
الاستنتاج الثالث لهذه الورقة: في حين تركّزت السياسة على الأزمة المصرفيّة، برزت أزمتان أخريان أكثر حدّة، وهما: أزمة اجتماعيّة قاسية وانهيار للدولة. ارتفع معدّل الفقر ليصيب نحو 50% من السكّان، وتراجعت ميزانيّة الدولة بنحو عشرة أضعاف، وتوقّفت الخدمات الأساسيّة. وهناك خطرٌ محدقٌ بجيلٍ كامل يُهدّد بعدم التحاقه بالمدارس. تتطلّب كلتا الأزمتين اهتماماً وتمويلاً. وفي حين لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد ديناميكي من دون قطاع مصرفي، لا يمكن أن يكون هناك بلد من دون دولة. تتفاعل هذه الأزمات الثلاث في ما بينها، وتتنافس على الموارد الماليّة والاهتمام السياسي على المدى القصير، لكنها تكمّل بعضها أيضاً: إنَّ عدم إحراز تقدّم في أي من هذه الأزمات يحول دون إحراز أي تقدّم في مسار التعافي. لذلك، يبقى خطر الوقوع في مصيدة الفقر مُرتفعاً ما لم يتمّ التعامل مع هذه الأزمات بشكل مؤاتٍ.
والمقصود هنا هو عدم وجوب استخدام الأصول العامّة والإيرادات الحالية والنادرة أو تكريس الدعم الخارجي لحلّ الأزمة الماليّة، بل يجب توزيعها بطريقة حكيمة لدعم الاستقرار بطرق توفّر أفضل الفرص للتعافي السريع.
حاجة إلى دفعة كبيرة
يتمثّل الاستنتاج الرابع بضرورة حصول انتعاش اقتصادي أوّلي وسريع من أجل تحريك الدولة والسوق والمجتمع والخروج من الحالة المؤلمة الحالية. وهذا يتطلّب استعادة الثقة. لا يتطلّب النموّ المستقبلي استثمارات حكوميّة ضخمة أو قوانين مُعقّدة، إذ يتمتّع لبنان بالعديد من المزايا النسبيّة، بدءاً من السكّان الماهرين، وارتباطه بالمغتربين، وصولاً إلى سمعته الحسنة عالمياً. نعتقد أنه يمكن تحقيق نموّ من خلال زيادة عدد الشركات الصغيرة والمتوسّطة في جميع أنحاء البلاد. لقد انتهى النموذج القديم للاقتصاد الريعي، وهناك حاجة إلى نموذجٍ جديد، بشرط أن يكون مرناً تجاه الصدمة التي تعرّض لها لبنان، والتي ستظل تهزّه، نظراً لموقعه الجغرافي وتاريخه (الشكل 4).
قد يتمّ خلق دفعة مُماثلة من خلال الشروع في إصلاح القطاع المالي بالتوازي مع الحصول على دعم خارجي كبير، ما يسمح بضبط التضخّم وتقليل التوتّرات الاجتماعيّة في المرحلة الانتقاليّة نحو مسارٍ جديدٍ للنموّ. قد تولِّد خطّة مُماثلة دفعة ثقة، تؤدّي إلى ارتفاع قيمة العملة المحلّية، واستخدام مليارات الدولارات المتداولة في الاقتصاد للاستثمار والاستيراد بدلاً من استخدامها كمخزن وقائي للقيمة. قد يبدو هذا السيناريو خيالياً في ظلّ الكساد الحالي، لكن الرئيس رفيق الحريري نجح في إعادة إعمار وسط بيروت في ظل ظروف أكثر صعوبة، عندما كانت الميليشيات لا تزال تجوب الشوارع والبلاد مُنقسمة بالكامل. أيضاً نُفِّذت إصلاحات طموحة في خلال مرحلتين تاريخيتين: رئاسة فؤاد شهاب بعد الحرب الأهليّة عام 1958، وولاية الرئيس أمين الجميّل بعد الحرب الأهليّة عام 1975. تمكّنت حكومات هاتين المرحلتين من الحصول على صلاحيّات تشريعيّة واسعة من البرلمان لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة. وللتمكّن من القيام بذلك مجدّداً، سوف يتطلّب الأمر بحدّه الأدنى إدارة سياسيّة جديدة، إن لم يكن تسوية سياسيّة، مستعدّة للمراهنة على الإصلاحات والتنمية.
والمقصود في هذا السياق، أنَّ حزمة الاستقرار يجب أنَّ تكون جزءاً من برنامج طموح للتجديد الوطني. وهنا، ستكون الإشارات المُرسلة حول اتجاه السياسة أساسيّة. تشمل المكوِّنات الضروريّة لبرنامج مماثل حدّاً أدنى من الأمن وسيادة القانون والسياسات التي تعزّز الانتقال الاجتماعي وإعادة تأهيل البنية التحتيّة الأساسيّة. يجب أن يتمحور الهدف حول السماح للبلديات بالتنافس على جذب الشركات الصغيرة والمتوسّطة بدلاً من مدنٍ مثل دبي، واستبدال الأجور المُرتفعة بتكاليف معيشيّة أقل ونوعيّة حياة جيِّدة وسط طبيعة ساحرة وثقافة نابضة بالحياة.
هل يستطيع المانحون التوفيق بين أمرين؟
أخيراً، تكمن الفكرة التي تقترحها الورقة في وضع استراتيجيّة جديدة للمانحين، الذين يُعدُّ دعمهم أساسياً من أجل خلق دفعة قوّيّة متماشية مع «السياسة». حتّى الآن، وعلى مرّ السنين، كان المانحون سخيين (الشكل 5). وعلى الرغم من أنَّ لبنان ليس محبوبَ المانحين كما الأردن، لكنّه تمتّع بعمليّات إنقاذ مُتكرِّرة ولَّدت خطراً أخلاقياً. وهذا ما يفسِّر سبب سقوطه القويّ. ومثل كثيرين في لبنان، نطالب المانحين بالتوقّف عن تقديم شيكات على بياض تساعد النظام غير الفعّال على الاستمرار من خلال تأجيل التعامل مع القضايا الصعبة واتخاذ القرارات المُهمّة. توصّل صندوق النقد الدولي إلى اتفاق على مستوى الموظّفين مع لبنان في نيسان 2022، يتضمّن قائمة طويلة من الإجراءات المُسبقة التي يجب الوفاء بها قبل نقل البرنامج إلى مجلس إدارة الصندوق، على أن يتشابك مع وعود المانحين بتقديم دفعة كبيرة مشروطة.
مع ذلك، تمثّل قائمة الإجراءات المُسبقة الحدَّ الأدنى المطلوب لبرنامج يمكن الاستناد إليه في بناء استراتيجيّة وطنيّة تحقّق الاستقرار والتعافي. مع ذلك، سيكون برنامج صندوق النقد الدولي المُمتدّ على ثلاث سنوات قصيراً جدّاً لدعم برنامج وطني شامل نظراً لحجم التحدّيات. في الواقع، هناك حاجة إلى برنامج طويل المدى وأكثر تنظيماً وسخاءً، حيث ينصبّ التركيز على التخلّي عن المستوى الاستثنائي الحالي من التقشّف والانتقال نحو توسّع مدروس للدولة بالتوازي مع انتعاش الاقتصاد. وهذا ما سيتطلّب تعاوناً أوثق بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالمقارنة مع ما يحدث عادةً.
ولكن لكي تكون هذه الدفعة الكبيرة المشروطة مُفيدة، يجب أن تُستكمل بجهودٍ من أجل حماية المجتمع ومنع تعرّضه لمزيد من الجروح العميقة في خلال الفترة الانتقاليّة. والمقصود هنا هو توصية المانحين من أجل تطوير استراتيجيّة أكثر توازناً مقسّمة إلى مرحلتين؛ من أجل دعم المرحلة الأولى التي تقوم بشكل أساسي على المساعدات المشروطة، هناك حاجة إلى مرحلة ثانية تنظِّم الدعم الإنساني بشكل أكثر شموليّة يقوم على دعم الخدمات الأساسيّة. وتُعدُّ المرحلة الثانية ضرورية إلى حين مجيء الوقت (غير المؤكِّد) لبدء برنامج إصلاح أعمق. أيضاً يؤدّي دعم الخدمات الأساسيّة إلى التعافي الكلّي بشكل أسرع ويمنح الدولة بعض المساحة لإعادة بناء قدرتها بسرعة، وهو شرط لا غنى عنه لإحياء البلاد.
في الخلاصة
لا يزال الوضع السياسي غير مؤكّد. لكن يمكن للمرء أن يتحلّى ببعض التفاؤل الحذر أقلّه على المدى الطويل. لا يزال التطوّر السياسي والمجتمعي الذي أحدثته الأزمة مستمرّاً، ولن يكون من السهل على النظام فرض خياراته في المستقبل. ما كان يُعتبر سلوكاً مقبولاً في الماضي، مثل مشتريات الدولة من دون خضوعها للمنافسة، بات يحرك الرأي العام الآن. كما أنّ المجتمع المدني بات أكثر تعبئة وفاعليّة. وعلى الرغم من عجزه عن فرض إجراء تحقيق في انفجار المرفأ، إلّا أنه أجبر السلطات على إسقاط دعاوى للتحقيق مع صحافيين وناشطين في الفترة الأخيرة.
(*) إسحق ديوان: مدير الإقتصاد السياسي في منتدى البحوث الاقتصادية، وأيضاً مدير الأبحاث في مختبر التمويل من أجل التنمية. ويدرّس في جامعة باريس للاقتصاد.
(*) هنري شاوول: اقتصادي، حائز دكتوراه من جامعة كولومبيا، عمل مستشاراً لوزير المالية في لبنان وشارك ضمن الوفد المفاوض مع صندوق النقد الدولي في العام 2020، ويعمل في قطاع تمويل الشركات والاستثمارات.