مع تفاقم النزاع بين المودعين والقطاع المصرفي في لبنان، وفي ظل عدم إنصاف المودعين أمام المحاكم اللبنانية، اتجه الكثير منهم إلى إقامة دعاوى قضائية خارج البلد، لاسيما منهم مَن يملكون حسابات لدى المصارف اللبنانية في الخارج. وفي حين نجحت بعض الدعاوى وصدرت فيها أحكام لصالح مودعين، تستمر العديد من المحاكم الأجنبية بالنظر في قضايا أخرى، ومنها بحق مصرفيين وحاكم مصرف لبنان السابق وعموم المصارف.
وإذا كانت الدعاوى أمام القضاء الأجنبي تنجح في بعض الأحيان في مصادرة أموال أو تحصيل ودائع، إلا أن الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية قد تصل إلى توقيف الضالعين بجريمة العصر من مصرفيين وسياسيين متواطئين على اللبنانيين.
فالجريمة التي ارتكبتها المصارف ومصرف لبنان بالتعاون والتواطؤ مع السلطة السياسية، لا تختلف كثيراً عن مخطط الاحتيال الشهير Ponzy Scheme الذي خطّط له وقام به الأميركي برنارد مادوف، الرئيس السابق لبورصة ناسداك الإلكترونية. وقد تمت محاكمته وتجريده من أمواله البالغة قيمتها 50 مليار دولار، والتي جمعها احتيالاً من مستثمرين ومودعين وصناديق استثمارية ومصارف عالمية.
طبيعة الدعوى الجديدة
الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية يتم التحضير لها من قبل مجموعة من المتضريين اللبنانيين من جريمة المصارف، يشكّلون “مجلس حقوقنا”، وبينهم شخصيات رسمية كوزير الدولة لشؤون المهجرين عصام شرف الدين، النائب الياس جراده، القاضي السابق شكري صادر والمحامية بشرى الخليل، وسواهم من المعنيين بمتابعة قضية المصارف. وتُعد هذه الدعوى الأولى من نوعها خارج لبنان.
الادّعاء المُرتقب امام المحكمة الجنائية الدولية International Criminel Court (وهي ذات الطابع الجزائي) يتم التحضير له بدقة بالغة على نحو يتم فيه تجنيب الدولة اللبنانية أي أذى. وفي حين يستنكر مصدر مصرفي هذا التوجه ويصفه بالمبالغ فيه، ويعتبر أن المحكمة المذكورة ليست ذات اختصاص لقبول هذا النوع من الدعاوى، تؤكد المحامية بشرى الخليل في حديث إلى “المدن” بأن الدعوى ستتم امام المحكمة الجنائية الدولية “إذ أن عناصر النية الجرمية تتوفر في قضية المصارف، لاسيما عندما جرى استدراج الناس لإيداع أموالهم في مقابل فوائد عالية جداً، كما أن عملية الاستدراج جرى التخطيط لها لوضع اليد على أموال المودعين”. لافتة إلى وجود نية جرمية تنطبق عليها صلاحيات المحكمة الجنائية.
وتذكّر الخليل بأن ما فعلته المصارف كان عملية استدراج موصوفة. وهناك مودعون ماتوا، ومنهم من عجز عن الحصول على علاجات صحية، ومنهم من أصيب بسكتة قلبية، ومنهم من باع كل ما يملك ليضع أمواله في المصارف، بهدف الحصول على فوائد عالية. وهناك مغتربون أمضوا حياتهم بتحويل الأموال إلى لبنان، والمصارف اطاحت بجنى أعمارهم… كل هذه الحالات مدرجة في سلم الجرائم التي ارتكبتها المصارف بحق المودعين. وتصرّ الخليل على أنه لا بد من كشفهم أمام جهة دولية كبيرة.
لم يشهد التاريخ قضية كقضية المصارف اللبنانية وكيفية وضع يدها على الودائع. وبالتالي، فلم يسبق للمحكمة الجنائية أن شهدت دعوى مماثلة. وبحسب الخليل “عندما يتعلق الامر باضطهاد أو سرقة أو تجاوزات من قبل السلطة المحلية بحق مواطنيها، يمكن للمواطنين اللجوء إلى محكمة الجزاء الدولية (أي المحكمة الجنائية الدولية). وهنا تلعب دور محكمة الأفراد على الحكومات والحكام بخلاف محكمة العدل التي تقف فيها دولة بوجه دولة اخرى.
هل من جدوى للدعوى؟
أحياناً يقيم محامو الجزاء دعوى هم على علم مسبق بأنها خاسرة، لكنهم يستهدفون الدعوى بحد ذاتها لأسباب مختلفة، تقول محامية الجزاء، منها إلزام المدعى عليه للجلوس إلى طاولة المفاوضات، أو كوسيلة ضغط لدفعه إلى حل المشكلة. وهنا تكون الدعوى بحد ذاتها هدفاً.
في الحالة اللبنانية، يستهدف المدّعون بالبداية إقامة دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية. حينها يعود القرار إلى المحكمة لجهة قبول الدعوى أو ردّها. لكن بموازاة ذلك، سيعمل المدّعون على نشر كل ما يحصل وكشف كيف استدرجت المصارف الناس لسرقة أموالهم، وكيف تعهدت وزارة المال بأن العملة الوطنية مستقرة، وكيف طمأن وزير المال خلال الأزمة بأن لا خطر على الودائع. كل هذه الأحداث تثبت نية التحايل والتواطؤ، لاسيما أن كل ما جرى كان بعلم حاكم مصرف لبنان المدعوم من السلطة السياسية، التي حصل أفرادها على تسهيلات مصرفية منه على مدار سنوات بمئات ملايين الدولارات.
من هنا، لا بد من التذكير بصلاحيات المحكمة الجنائية الدولية. وهي تعنى بمحاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الاعتداء. أما خانة الإبادة الجماعية، فتشمل أفعالاً عديدة بينها إخضاع الجماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً.
إذاً، من المحتمل أن تقبل الدعوى أمام المحكمة. لكن بمجرد رفع الدعوى، يحق للمحكمة نشرها من جديد وفتح تحقيق واستدعاء الأطراف وأخذ إفاداتهم والتحقيق معهم وغير ذلك من الإجراءات. ومن الممكن أن تصدر المحكمة مذكرات توقيف في حال ثبوت تلك الجرائم، كما حصل مع رئيس السودان سابقاً، على ما تقول الخليل. في المقابل، أحياناً تكون عملية نشر الدعوى غاية بحد ذاتها.
القضاء الأجنبي
العديد من الدعاوى بحق المصارف ومصرف لبنان رُفعت خارج لبنان، منها على سبيل المثال الدعوى التي أقامها أحد المودعين أمام المحكمة العليا البريطانية، وأخرى أمام محكمة الاستئناف الأميركية، ودعوى أمام محكمة الاستئناف في باريس- فرنسا. وآخر الدعاوى في الولايات المتحدة أمام محاكم نيو جيرسي.
تلك الدعاوى بالخارج ليست كما الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، على ما توضح المحامية بشرى الخليل. وتقول “أنا مع إقامة الدعاوى بوجه المصارف، لكن أقوى نوع من الدعاوى هي تلك التي نعمل على تحضيرها أمام المحكمة الجنائية. فهذه يمكن أن يصدر عنها مذكرات توقيف، وليس كما باقي الدعاوى أمام القضاء البريطاني أو السويسري أو الفرنسي وغيره، التي تتم فيها مصادرة أموال، لاسيما في حال ثبت تورط شركاء من تلك الدول مع المصارف اللبنانية. وأحيانا يكون القرار مصادرة الأموال لصالح خزينة تلك الدول.
لكن في حالة المحكمة الجنائية، لا تتم مصادرة الأموال. كما أن المدعين يحرصون في دعواهم على تجنيب الدولة اللبنانية التعرض لأي ضرر. لذلك يتم درس الدعوى بدقة لمدى خطورتها.