دفاعًا عن صندوق النقد بوجه الطغمة المهيمنة في لبنان

“إحذروا صندوق النقد“، كما حذّر منذ ثلاثة أيّام أحد الوزراء السابقين في مقال ناري، مودّعًا بعثة الصندوق بعد زيارتها بمزاعم تصل إلى حد اتهامها بالسعي إلى “شلّ الاقتصاد اللبناني لفترة طويلة وتدمير أي فرصة لإنعاش القطاع المصرفي”. كاتب المقال، أحد الصقور السابقين في تجمّع الهيئات الاقتصاديّة، أنهى مطالعته بمطالبة الصندوق “بتحديد مصير الأموال المنهوبة”، وأن “يعلن الأسماء” أمام اللبنانيين (نعم، طلب الوزير السابق هذا من الصندوق!). وفي مقابل محاسبة الصندوق بالنسبة للأموال المنهوبة، يستنكر الصناعي الشهير نفسه اتجاه الخطّة الحكوميّة لتمييز الودائع حسب مشروعيّتها، إذ لا يجوز التحقيق مع المودعين حول مصدر أموالهم!

قبل يومين من نشر هذا المقال، اختار مجموعة من الأفراد الذين يعملون تحت عنوان “حقوق المودعين” التظاهر أمام مقرّ بعثة الصندوق، بشعارات تطالبه “بإعادة الودائع وفي أقرب وقت ممكن”. هؤلاء، استنكروا على الصندوق ضآلة القرض المعروض، في مقابل شروطه التي تتجه نحو “شطب الودائع”. الصندوق، “المتآمر لشطب الودائع”، كما يقول روّاد “قدسيّة الودائع“، والذي “لا يحتاجه لبنان” كما قال الوزير السابق إياه في مقاله. المقال والتحرّك، كانا مجرّد صدى للحملات التي يتعرّض لها الاتفاق المبدئي الموقّع بين لبنان وصندوق النقد منذ توقيعه قبل عامين. والبحث عن أي من تلك الحملات، يقودك تلقائيًا إلى منصّة إعلاميّة أو شخصيّة عامّة متصلة بشكل أو بآخر بالنخب الماليّة أو السياسيّة المهيمنة في لبنان.

الهجوم المغري على الصندوق
ثمّة ما يغري المرء لاتخاذ موقع هجومي ضد الصندوق: هو تلك المؤسسة العالميّة الرأسماليّة الشرسة، التي ما إن تطل برأسها في دولة ما حتّى ترتعد الفرائص من خططها ومقارباتها. وغالبًا ما اتصل إسم الصندوق بأزمات الدول الناميّة، التي تقل فيها الشفافيّة والديمقراطيّة، وتبحث فيها النخب الحاكمة عن شمّاعة تنسب إليها الخطط التقشّفية المؤلمة. الصندوق هو شمّاعة مثاليّة، وفي تاريخه ما يثبت قسوته. وفي لبنان بالتحديد، لم تكن تحذيرات الصندوق بين عامي 2011 و2019 تتناسب مع حجم المخاطر المحدقة والمقبلة، والتي انكشفت لاحقًا. وهنا، يصح السؤال عن سبب إشادة بعض تقاريره بالحاكم السابق لمصرف لبنان وسياساته النقديّة.

قد يبدو الهجوم على الصندوق ومقاربته مغريًا، وربما سهلًا وبسيطًا في زمن شعارات “قدسيّة الودائع” و”مسؤوليّة الدولة” و”الحفاظ على القطاع المصرفي“. ومع ذلك، تكمن خطورة الفكرة دائمًا في بساطتها، في أيامٍ بات نجومها ممتهني الشعبويّة، في مشرق الأرض ومغربها. وإذا كانت معارضة الصندوق –المحقّة جدًا- تأتي من وجهات نظر نقابيّة أو شعبيّة في الغالبيّة الساحقة من الدول الأخرى، فالهجوم على مقاربة الصندوق في لبنان لا يأتي إلا من وجهة نظر الطغمة إياها. الطغمة المصرفيّة، والطغمة السياسيّة. وهما في واقع الأمر شبكة واحدة متصلة ومتداخلة، في السياسة كما في الاقتصاد.

… والدفاع الصعب عنه
لكل ما سبق ذكره، هذا المقال هو في سياق الدفاع الصعب عن مقاربة صندوق النقد في لبنان. لا يوجد في تاريخ الصندوق أو حاضره الكثير مما يشجّع المرء على الدفاع عنه. غير أن السياسة لا تُقارب بمنطق الملائكة والشياطين. وحين تدخل المصالح، تصبح المسائل أكثر تعقيدًا.

وليكن ذلك واضحًا: بعد رفع الدعم، وتجميد رواتب القطاع العام (المساعدات الاجتماعيّة ليست تصحيحًا لأصل الراتب)، وهبوط قيمة الليرة، وانكماش حجم الإنفاق العام، وتطبيق كل أشكال الهيركات المقنّع على المودعين، وبعد تراكم خسائر مصرفيّة تقارب قيمتها 3.65 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي.. هل أبقى لبنان مجالًا لشروط موجعة اجتماعيًّا، كي يقترحها الصندوق؟

ما تبقى من شروط الصندوق فعليًا هو التالي: التدقيق في ميزانيّات المصارف ومصرف لبنان، والتخفيف من كلفة إعادة هيكلة المصارف على الماليّة العامّة (أي الشعب اللبناني، ما أوقح مقاربة الصندوق!)، ورفع السريّة المصرفيّة (وهذا ما يكشف مصير الأموال المنهوبة، يا معالي الوزير السابق)، وإعادة هيكلة الدين العام، وتوحيد أسعار الصرف. عمليًا، ما تبقى من شروط إصلاحيّة يحتاجها لبنان، هي ما يتعارض مع مصالح الطغمة، لا أكثر ولا أقل. وهذا لا يتصل بقيم الصندوق وكرم أخلاقه، بل لأن ولاة الأمر في لبنان لم يتركوا مجالًا لاشتراط ما هو أسوأ من الواقع الراهن، على المستوى المعيشي أو الاجتماعي.

هكذا، نعود إلى الفكرة نفسها، ليس في المسألة هنا ملائكة أو شياطين. صندوق النقد هو مؤسسة دوليّة، تأتي برامج تمويلها لتكون شهادة ثقة للأسواق الدوليّة، كي تعود الدولة إلى النظام المالي العالمي من جديد. هذا ما يحوجنا اليوم إلى الصندوق، وليس قيمة التمويل “الضئيلة”، وهي ضئيلة بالفعل. وغاية التمويل هنا، ليست رد الودائع حتمًا، كما يعتقد جماعة “قدسية الودائع”. ولأنّ التمويل هو “شهادة ثقة”، فهذه الشهادة لن تنالها حتمًا دولة تسير بأفكار مثيرة للسخرية والشفقة، مثل ربط خسائر تقارب قيمتها 22 مرّة حجم الإيرادات العامّة، بالدين العام أو بالمرافق العامّة!

أسطورة شطب الودائع
في كل الخطابات التي تشيطن الاتفاق مع الصندوق، ثمّة مكانة محوريّة لأسطورة “شطب الودائع”، التي تتهم الصندوق بالتآمر للتفريط بحقوق المودعين. وفي واقع الأمر، لا يمكن العثور في جميع بيانات الصندوق أو عبارات مسؤوليه على جملة واحدة تفيد هذا المعنى، أو تذهب بهذا الاتجاه. أمّا مسألة ضمان 100 ألف دولار فقط من كل وديعة، وتصنيف المصارف بحسب قدرتها على الاستمرار، فكان من بنات أفكار الخطّة الحكوميّة، لا التفاهم نفسه مع صندوق النقد.

ما طلبه الصندوق في الاتفاق المبدئي مع لبنان كان أولًا تدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرفًا، للوقوف عند الوضعيّة الماليّة للقطاع المصرفي، وتمييز المصارف القادرة على الدخول في عمليّات إعادة رسملة. وهذا التدقيق لم يتم طبعًا حتّى هذه اللحظة، لأسباب عديدة من بينها عدم تمرير التشريعات المطلوبة لتمكين المدققين من رفع السريّة المصرفيّة، وهو ما يخالف أيضًا شرط آخر من شروط الصندوق (وهذا ما يمكن أن يحقق الشفافيّة مع اللبنانيين، إذ لا يملك الصندوق داتا المصارف ليفصح عنها كما يطلب معالي الوزير!).

وبعد هذا التدقيق، يشير التفاهم مع الصندوق إلى ضرورة خضوع القطاع لعمليّة إعادة هيكلة تقر مقدّمًا بالخسائر المتراكمة، وهو ما يمثّل عمليًا الشرط الأساس لتمكين القطاع من استعادة انتظامه. ولا يتحدّث الصندوق عن شطب للودائع، بل يترك أمر التمييز بينها وتحديد الأولويّات لخطّة الحكومة، لكنّه يتحدّث عن ضرورة توفير الحماية لصغار المودعين، من دون أن يعني ذلك عدم وضع تراتبيّة في حقوق كبار المودعين. ويمكن لهذه التراتبيّة أن تكون بحسب مشروعيّة الودائع، كما يطمح اليوم الحاكم بالإنابة، وهو ما يرفضه معالي الوزير في مقاله لسبب ما (تمامًا كما رفضته جمعيّة المصارف “لأسباب مجهولة”!).

هكذا، كل ما يُقال حول شطب الودائع، أو تآمر الصندوق لتدمير القطاع المصرفي، لم يكن سوى مجموعة شائعات أطلقتها فئات متضرّرة من احتمال إعادة هيكلة القطاع المصرفي. هذه الفئات، التي تزعم الحرص على سلامة المصارف، هي نفسها التي شيطنت أكبر مصارف القطاع، حين اجتمعت مؤخرًا ببعثة الصندوق للبحث في الآليّات المحتملة لإعادة الهيكلة. وفي جميع الحالات، تبقى مصلحة القطاع الفعليّة كامنة في التخلّص من خسائره وتجاوز مرحلة “بنوك الزومبي”، عبر إعادة الهيكلة الفعليّة. أمّا استمرار الوضع الرهن على ما هو عليه، فلن يؤدّي إلا إلى اتجاه البلاد نحو عزلة ماليّة لا تُحمد عقباها.. وهذا ما تُبشّر له احتمالات دخول لبنان القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي.

لكل هذا، مجددًا: صندوق النقد ليس ملاكًا ولا شيطانًا. لكنّ من يشيطنه ينطلق أساسًا من نوايا سيّئة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةثقب أسود بـ”كهرباء لبنان” يُخفي الوظائف الشاغرة.. والمياومون ينتظرون
المقالة القادمة“توتال” في لبنان: تستعجل مشاريع “الطاقة” وتفرمِل “النفط”