لطالما استخدم حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة مظلة شركتَي التدقيق العالميتين «ديلويت» و»أرنست أند يونغ» لتأكيد شفافية عمليات المصرف المركزي والتزامه القواعد والقوانين في تقاريره المالية. وهو ما كانت تصادق عليه الشركتان ببيانات سنوية من دون أي تحفّظ أو إشارة إلى وجود خلل ما في حسابات المركزي أو توظيفات المصارف التجارية لديه. هكذا، نجح الحاكم في إخفاء كل تجاوزاته وتجاوزات المصارف، متسلّحاً ببيانات مدقّقي حسابات عملوا وفق «معايير» دكانة سلامة، ورتبوا له تقارير لا تتضمن أي إدانة له على مدى سنوات… إلى أن حلّ الانهيار الكبير وبات الحاكم ملاحقاً بشبهات تبييض أموال واختلاس وسوء استخدام للسلطة. عندها، انسحب المدقّقون من اللعبة بهدوء من دون أن يتحمّلوا مسؤولية ما أدى إليه تستّرهم على واحد من أكبر المخطّطات الاحتيالية
في 2 أيار الماضي، استجوب الوفد القضائي الأوروبي الذي حضر إلى لبنان للاستماع إلى عدد ممّن عملوا مع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، مدقّق الحسابات وليد نقفور، بصفته مديراً لشركة «أرنست أند يونغ» – فرع لبنان، والذي تدرّج في الشركة ليصبح شريكاً فيها عام 2007.
عام 2004، كُلّف نقفور بموجب عقد موقع بين سلامة ممثلاً المجلس المركزي ورمزي عكاوي ممثلاً EY، التدقيق في حسابات مصرف لبنان. لكن، للمصادفة، ما إن بدأت التحقيقات الأوروبية ضد سلامة بتهم اختلاس وتبييض أموال حتى انسحبت الشركة من أعمال التدقيق، وانتقل نقفور للعمل في «إرنست أند يونغ» – أبو ظبي، مشيراً إلى أن لا علاقة قانونية بين الشركتين اللتين تحملان الاسم نفسه، وإلى أنه لا يزال شريكاً في الشركة اللبنانية.
منذ اللحظة الأولى للاستجواب، كان همّ نقفور الإيحاء بأنه أوكل بمهمة خاصة، وليس التدقيق في حسابات مصرف لبنان بشكل رسمي، مبرراً ذلك بأن «قانون النقد والتسليف ينيط بمفوض الحكومة أعمال المراقبة دون أي مرجع آخر». لذلك، عندما تمّ التعاقد مع شركته وشركة «ديلويت» لإجراء تدقيق مشترك في المصرف، و»لدى اطلاعنا على المهمة وعلى قانون النقد والتسليف، اعتبرنا أن المهمة الموكلة إلينا هي مهمة خاصة بغية اطلاع الحاكم والمجلس المركزي على الأوضاع المالية في مصرف لبنان، وعلى هذا الأساس قمنا بعملنا، من دون أن تكون دراستنا معدّة للنشر أو للاستعمال في أي موقع رسمي». وبالتالي، تنصّل نقفور من صفته كمدقق بالادعاء أنّ التعاقد مع شركته كان لقاء «مهمة خاصة» ولم يكن تدقيقاً رسمياً، من دون أن يشرح ما هي الصفة التي عمل بها لمصلحة سلامة والمجلس المركزي والمصارف، وعلى أي أساس كانت شركته تصدر بيانات وتقارير تعلن فيها سلامة العمليات في مصرف لبنان، ويستند إليها الحاكم السابق في كل إطلالاته الإعلامية وبياناته للدلالة على أن عمله لا يشوبه أي خلل!
وقد بدا التضارب واضحاً في أقوال نقفور الذي ما إن يُنهي جملة حتى يقول نقيضها. إذ أجاب على سؤال حول نطاق عمل «أرنست أند يونغ» بأن الشركة اطلعت على حسابات حددتها بنفسها بشكل عشوائي وفق المعايير والأصول الدولية للتدقيق. هكذا، لم يعد معلوماً إن كانت EY، وهي واحدة من الشركات الأربع العالمية المعتمدة في هذا المجال، تعمل كمستشار لدى سلامة وشركاه أو تلتزم بأساس المهام التي أنشئت من أجلها، وهي إجراء تدقيق محاسبي دقيق في المؤسسات والمصارف وغيرها. علماً أن الشركة تواجه في أميركا مشكلات عديدة انتهت بتغريمها 100 مليون دولار إلى هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، في ما يُعد أكبر غرامة أصدرتها الجهة الناظمة ضد شركة تدقيق حسابات، بعد اكتشاف أن موظفيها الذين يفترض بهم أن يعملوا لكشف الغش، هم أنفسهم غشاشون. كذلك فرضت ألمانيا غرامة قيمتها 540 ألف دولار على «EY» ومنعتها من أعمال التدقيق المالي للشركات العاملة فيها لمدة عامين على خلفية تورّطها في فضيحة احتيال شركة المدفوعات المالية WireCard. اكتشاف مخالفات الموظفين العاملين لدى الشركة في الخارج أدى إلى محاسبتها من قبل الهيئات العليا التي تُشرف على شركات التدقيق، لكن في لبنان ليس ثمة من يُحاسِب أو يُحاسَب، فتسرح هذه الشركات وتمرح وتراكم التجاوزات والمخالفات ثم تنهي أعمالها وتذهب كأن شيئاً لم يكن، ومن دون أن تتحمل مسؤولية قانونية بعدم إبداء رأي بالعمليات المالية التي حصلت في المصارف ومصرف لبنان، وبعدم إبلاغ هيئة التحقيق الخاصة ووزارة المال بالأعمال غير الشرعية التي قام بها سلامة.
لم نشك في سلامة
رغم محاولة نقفور تبرئة ذمته من مآثر الحاكم، إلا أنه لم يفسّر الدافع وراء عدم إيراده في تقريره «حادثة» منع سلامة الشركة من التدقيق في أحد الحسابات في مصرف لبنان. وهو اعترف أمام القضاة الأوروبيين أن سلامة طلب (من 5 أشخاص مسؤولين عن التدقيق من أرنست أند يونغ) في عام 2016 عدم التدقيق في أحد الحسابات الذي اختير عشوائياً، مُعلقاً: «لا أعرف لماذا طلب ذلك». وهو لا يعرف أيضاً إن كان هذا الحساب هو حساب العمولات (أي الحساب الذي كانت تستفيد منه شركتَا فوري وأوبتيموم)، مشيراً إلى أن المنع جاء «بموجب كتاب خطي موقّع من سلامة نيابة عن المجلس المركزي ويُسمّى في أوراقنا كتاب التمثيل، وفريق العمل كان قد اختار هذا الحساب عشوائياً من ضمن عينة من الحسابات». وكتاب التمثيل، وفقاً لنقفور، موجود «ضمن الأوراق التي صادرها القاضي جان طنوس من مكتبنا».
تجدر الإشارة هنا إلى أن تقارير الشركة كانت تُرسل إلى الحاكم عبر دائرة التنظيم والتطوير التي يرأسها رجا أبو عسلي، أحد شركاء سلامة.
لماذا كان مسموحاً التدقيق بالحساب قبل عام 2016؟ سألت القاضية الفرنسية أوت بيروزي، فأتاها الردّ كالتالي: «لا أعرف ما إذا كان هذا الحساب بالذات من العينات المختارة قبل عام 2016، ولكن أؤكد أننا لم نواجه أي إشكالية تتعلق بأي حساب سوى هذا الحساب عام 2016”. فبادرته بسؤال آخر: «هل ذكرتم في تقريركم منع الحاكم لكم من الاطلاع على هذا الحساب؟»، فنفى ذلك بحجة «حرص» الشركة على إيراد «كتاب خطي يطلب فيه الحاكم عدم التدقيق في الحساب، وعلى ما أذكر الكتاب يحدد رقم الحساب المذكور ونُسّق مع المسؤولة عن شركة «ديلويت» ندى معلوف».
أما سبب عدم ذكر ذلك في التقرير، فيعود، كما ادّعى، إلى أن المهمة التي تقوم بها الشركة «مهمة خاصة لإطلاع الحاكم والمجلس المركزي، ويكون ذلك متروكاً لمفوّض الحكومة (أعمال الرقابة)”. وبذلك تنصّل نقفور من مهامه كمدقق مرة أخرى لتغطية تجاوزه لمعايير عمله بهدف التستر على الحاكم. لا يتوقف الأمر هنا بل يضيف أنه وفقاً «لاستنتاجاتي المهنية»، لم ير من داعٍ لذكر عملية الرفض، لأن «قيمة الحساب متدنية نسبياً بالنسبة إلى مجموع المطلوبات من المصرف المركزي، علماً أن الحساب كان من ضمن المطلوبات. والسبب أيضاً أن من طلب تنفيذ المهمة طلب عدم التدقيق في هذا الحساب». طبعاً لا يلتفت المدقق المحاسبي المجاز والعامل في شركة عالمية إلى أن المسألة ولو كانت تتعلق بحساب صغير، يمكن أن تشكل إشارة إلى أعمال كبيرة ومنها تبييض الأموال، ما كان يحتّم عليه الشك وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة، حتى لو طلب منه مُشغله، أي الحاكم، ذلك. فضلاً عن أن الحسابات غير ثابتة وتتغير ولا يمكن قياس نسبة رصيد أي حساب من دون مراقبة حركته وقيمة الرصيد في آخر العام والذي من الممكن أن يساوي مليارات الدولارات. لكن «مستشار» سلامة أسقط كل هذه الاحتمالات، وقرر أن يكون «وديعاً»، بالقول: «لم نشك أن هناك عملاً غير مشروع وراء الطلب بعدم التدقيق»!
لا مخالفات بمعايير سلامة
الجزء الأخير من التحقيق تركز حول المعايير المحاسبيّة التي اعتمدها سلامة في مصرف لبنان، والتي ركنت إليها EY ملتزمة بمعايير الحاكم «لأنها تشكل إطار العمل في المهمة الخاصة». سألت المحققة: «كيف لك أن تشرح لنا التناقض بين ما تقوله بأن عملك كان مهمة خاصة وغير معد للنشر، ومن جهة أخرى تباهي رياض سلامة بتقرير شركتكم للقول أن حسابات مصرف لبنان لا غبار عليها وجرى التدقيق بها من شركات عالمية؟». مجدداً، قرر نقفور الإجابة بسذاجة رافضاً التعليق على كلام الحاكم. فبالنسبة إليه، «التقرير لم يُنشر ولم يطلع عليه أحد من المعنيين لا سابقاً ولا حالياً، ولا سيما أن العقد بيننا وبين مصرف لبنان ينص على ضرورة طلب إذننا في حال رغب مصرف لبنان في نشر هذا التقرير أو نشره رسمياً ولم نتلقّ طلباً بذلك». وحول موجبات مكاتب التدقيق في ذكر التحفظات في تقاريرها عموماً، أي الإشارة سلباً أو إيجاباً إلى أي عمليات غير سوية أو تتعلق بحجب معلومات ومستندات عن المدقق، أجاب: «إذا كنا نعمل بصفة مدققي محاسبة (لم يذكر بأي صفة كان يعمل غير هذه الصفة) فعلينا ذكر هذه التحفظات لكي يتمكن من يحق له الاطلاع على التقرير، فالتدقيق المهني يستوجب ذلك». وأضاف أنه أثناء عمليات التدقيق لم يلحظ والموظفون الآخرون أي عمليات مشبوهة أو بحاجة إلى توضيحات، فالحاكم قدّم «إجابات مرضية» عن كل التساؤلات «باستثناء بعض المواضيع مثل الذهب وكل ما يؤثر على الميزانية ولم نجد له تفسيراً منطقياً وأرصدة المصارف التي لم نتمكن من التأكد منها من خلال مطابقات مباشرة مع المصارف المعنية وأرصدة حسابات القطاع العام التي لم نتمكن من مطابقتها، بالإضافة إلى أعمال تمت لها تأثير على الميزانية وأرقامها. وقد ذكرنا ذلك في تقريرنا». غير أن واجب نقفور المهني كان يقتضي عليه، في حالة مماثلة، الإعلان عن تمنّع مصرف لبنان والمصارف عن تزويده بالمستندات، ما سيؤثر حكماً على نتيجة التدقيق، ويحول دون معرفة الأرقام الحقيقية. وبالتالي يكون الحلّ بالانسحاب من التدقيق لعدم القدرة على تكوين رأي دقيق.
والانسحاب، وفقاً للعاملين في المهنة، هو أقصى ما يمكن أن يفعله المدقق ويحمل في طياته إدانة واضحة لسلامة. لكن نقفور ارتضى التكتّم على أمر بأهمية التأكد من ميزانية مصرف لبنان وأرصدة المصارف ومطابقتها مع الأرقام، مكتفياً بالإشارة إلى جريمة مالية مماثلة بذكرها في التقرير! وهو بالمناسبة لم يلاحظ أي مخالفة لقواعد المحاسبة، فقواعد الحاكم، على ما قال، «تختلف عن القواعد العالمية التي تعتمدها الشركات اللبنانية، ونحن أجرينا تدقيقاً وفقاً لمعايير مصرف لبنان». والفضيحة الكبرى أنه تعامل مع مهامه وكأنها مجرد لعبة بين طفلين لا تؤثر على مصير بلد بمودعيه واقتصاده ونقده ومواطنيه، لذلك امتنع عن إبداء رأيه بما توصل إليه التقرير بعد دراسة نماذج عن الميزانية. فليس من واجبه «أن يذكر ما إذا كان يمثل صورة عادلة عن الميزانية». وتلك سابقة، وخصوصاً أنها صادرة عن مدير شركة عالمية تعمل في الشرق الأوسط منذ عشرات الأعوام وتدّعي قيامها بأعمال التدقيق المحاسبي بمعايير دولية، حيث يوجب عليها القانون إبداء رأيها بالعمليات المالية، لا الجلوس في الزاوية وانتظار كلمة سرّ العميل!
الانسحاب أضعف الإيمان
يقول النقيب الأسبق لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان أمين صالح لـ «الأخبار» إن أي مدقق حسابات، أكان في لبنان أو في العالم، عليه أن يلتزم قواعد التدقيق الدولية. ثمة قواعد خاصة بالسلوك المهني وهي قواعد أخلاقية ومنها المهارة والكفاءة والنزاهة والاستقلالية. والقانون الرقم 44/2015 يلزم فئات متعددة منها المصارف والهيئات المالية الخاضعة للمركزي والمحامين وخبراء المحاسبة ومفوضي المراقبة بإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة عن الاشتباه بعمليات تبييض أموال، أي الأموال غير المعروفة المصدر والناتجة من فساد. وبالنسبة إلى التدقيق، طالما أن مدقق المحاسبات قد كُلّف بالتدقيق، فهو ملزم احترام قاعدة معايير الامتثال القانون، ما يعني أن التدقيق يجب أن يشمل مدى التزام المؤسسة المدقق في أعمالها بالقوانين والأنظمة في الإقليم الذي تعمل فيه. وبالتالي يقتضي على المدقق، في حال لم تلتزم المؤسسة بإعطائه كل المستندات، أن يعلن ذلك صراحة وأن ينسحب من عملية التدقيق إذا لم يتمكن من تكوين رأي صريح. الحديث عن رأي صريح يعني أنه مجبر على إبداء رأي، إما بالانسحاب، أو بالقول إن لا تحفظات حول العمليات التي دقق بها أو بإعلان تحفظاته وتعدادها. فالتدقيق يقتضي أن يطلب المدقق من المركزي الطلب بدوره من البنوك تأكيد أرصدتها، وإن لم يطلب ذلك يكون قد خالف قواعد التطبيق، وبالتالي يلتف على المهنية ويخرج عن قانونية عمله وقواعد السلوك والتدقيق. إلى جانب ذلك يؤكد صالح أن لا علاقة للمدقق بعمل مفوض الحكومة، إنما من واجبه أن يطلب من مصرف لبنان إمداده ببيانات مفوض الحكومة ليطّلع على آرائه ولجنة الرقابة على المصارف، وطلب الاطلاع على محاضر المجلس المركزي والتدقيق فيها طالما قَبِل بمهمة التدقيق. وكل ما عدا ذلك مخالف لكل معايير المهنة وقواعدها.