يسألني صحافيّ أجنبيّ: «كلّكم تتكلّمون عن الانهيار القادم، ولكن ما الذي يعنيه هذا التعبير بالتحديد؟ كيف سيتجسّد في الواقع عمليّاً؟». ماذا تريد مني؟ أن أشرح لك سيناريو الانهيار؟ هذا سؤال مستحيل، اذ لا يمكن لأحد أن يصف الانهيار مسبقاً أو أن يتنبّأ بأي شكلٍ سيأخذ وأي مدىً سيبلغ؛ لهذا اسمه «انهيار»، ولا يُعطى وصفاً محدّداً سلفاً (جوع، عنف، كساد، الخ)؛ فأنت قد تعرف بداياته وأسبابه، ولكنك لا تعرف تماماً ما سيتمخّض عنه. يكلّمني صديقٌ من الخارج (مسترشداً، على الأرجح، بالأفلام عن نهاية العالم) لينصحني عن حرصٍ وخوف بأن أخزّن الغذاء والمواد الأساسية. الأمور في الواقع لا تعمل هكذا؛ ما الذي يمكن أن تفعله بالضبط لـ«التوقّي»؟ أن أشتري طنّاً من القمح مثلاً؟
هنا، أيضاً، لا يمكنك أن تسترشد بالماضي، أو أن تعتبر أن ما نشهده هو تكرارٌ لمشهدٍ حدث سابقاً، أو في مكانٍ آخر في العالم. على سبيل المثال، يوجد فارقان أساسيان بين «الأزمة» التي تمرّ علينا اليوم، والأزمات المالية التي عرفها لبنان في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، هي كفيلة بتغيير كلّ الحسابات. أوّلاً، حين وقعت تلك الخضات في الماضي، لم تكن أكثر الأسر اللبنانية مثقلةً بقروضٍ شخصية ورهونات عقاريّة (كان أكثر النّاس لا يمتلكون حسابات مصرفية، ولا تقترض العائلات من المصارف إلا في حالات نادرة، والقروض العقارية غير معروفة تقريباً). كان من الممكن لانخفاض العملة أن يؤثر على دخلك، أو حتى أن يمحو مدّخراتك، ولكنك لم تكن – فوق ذلك – ملزماً بدفع أقساطٍ شهرية كبيرة للمصرف، بعضها بالدولار، ودورة الاقتصاد تقوم على أن يستمرّ الجميع بالتسديد. ثانياً، كانت الليرة اللبنانية تتعرض في مراحل لهجماتٍ وضغوط، ولكنها لم تكن مرتبطة بكتلة قروضٍ سيادية قيمتها أكثر من مئة مليار دولار، ومصرف مركزي يبدو أن خلف حساباته فضيحة ومصيبة – أي أن العملة قد لا تعود تصلح، ولو بالحد الأدنى، كوسيلة للتبادل.
على الهامش، وعلى سيرة «الرأسمالية التمويلية» التي جعلتنا جميعاً زبائن لدى البنوك، أذكر من طفولتي أن تعامل المصارف مع المودعين كان أفضل بكثير في الماضي، حين كانت الحسابات والتعاملات المصرفية قليلة نسبياً، وهي محصورة بالطبقة الوسطى وما فوق، ومدير الفرع يعرف حساباتهم اسماً اسماً. كان الذهاب الى المصرف تجربة «لطيفة» بمعنى ما: حتى لو كنت مودعاً صغيراً، كان يستقبلك الموظف (أو مدير الفرع)، ويرحّب بك شخصياً، وتشرب القهوة معه ويسألك عن العائلة، ريثما ينهي معاملتك. من هنا أصبت بصدمة حين كبرت وفتحت حساباً في مصرفٍ لبناني لأكتشف أنّه، في عهد «المصارف الجماعية»، أصبح الموظفون يعاملون الناس مثل حرس الحدود في المطارات الأميركية (وهذا كان قبل الأزمة).
للحقّ فإنني أشعر بشيءٍ من الذّنب لأني لا أشاطر أبناء وطني اليوم تجربة الإذلال أمام المصارف، وليست لديّ قصص أرويها حول ما جرى بيني وبين أمين الصندوق. منذ أشهر طويلة، تقتصر علاقتي بالمصارف على حسابٍ فيه 1500 ليرة بالضبط، أي دولار واحد (أصبح سبعين سنتاً). والفراق بالنسبة إليّ كان مسألة سهلة: منذ بدأت الكتابة والنشر، كان أول أو ثاني مقال لي عن لبنان هو للكلام عن هذه النقطة تحديداً، وعن الانهيار الحتمي القادم. من ناحية ثانية، فإن علاقتي مع المؤسسات بحجم المصارف هي أصلاً علاقة تشكيك متبادل: لا يثقون بي ولا أثق بهم. لا يرغبون بي زبوناً ولا أريد قروضهم. أتعرفون أولئك الناس الذين يتهمهم المصرفيون بأنهم «خربوا الاقتصاد» وحولوا ليراتهم إلى دولارات، وأخرجوها من المصارف وخبّؤوها في بيوتهم؟ أنا كنت أوّلهم، ونصحت كلّ من حولي، سرّاً وعلناً، بأن يحذوا حذوي. ولكن قلّة كانت تستمع حين تخبرها أنّ الليرة اللبنانية لم تعد آمنة، وكانوا يسخرون منك حين تضيف بأن عليك إخراج أرصدتك من المصرف ككلّ، فهو أيضاً سيسقط – المشكلة في هذه الأمور هي أنك لا يمكنك أن تعود إلى هؤلاء الناس لتقول لهم «ها! لقد حذّرتك!» فيما هو يتأسّف على ضياع مدخراته ويجتاحه الهمّ على مستقبل عائلته. المشكلة الثانية هي أنه ما زال البعض منهم يتّهمني بأنني «متشائم»، مع أني لست أنا الذي يقف كلّ أسبوع في طابور المصرف مستجدياً، ويتلو – بحرارة – دعاءً دينيّاً كلما أدخل بطاقته في آلة السّحب. بهذا المعنى، سلكت السلوك «الصحيح»، الشيء الوحيد الذي كان ينقصني حتى أستفيد من هذه الوضعية هو أن يكون لديّ مال.
فصول القصّة
حتى نعرف شكل «الوحش» الذي أمامنا ومعنى النظام الذي «ينهار»، هناك العديد من الخرافات الرائجة عن الاقتصاد والنظام اللبناني والتي يتوجّب تفنيدها أوّلاً. من المفيد هنا أن نستعين بنقد الأكاديمي نجيب حوراني للاقتصاد السياسي في لبنان (وبخاصة نصّه «رأسماليون في نزاع»، نشر في مجلة «ميدل ايست كريتيك» عام 2015). علينا أن نرتّب الأمور قليلاً ونحتسب لتطوّرها التاريخي: فكرة أن لبنان هو بلد «خدمات وسياحة»، مثلاً، عمومية وليست صحيحة بالكامل. منذ الأربعينيات وحتى الستينيات، كان لبنان بالفعل يستفيد من موقعه الجغرافي ويمتلك قطاعات خدمات وتجارة ولوجستيات مهمّة. بدءاً من أوائل الستينيات، يقول حوراني، أصبح القطاع المصرفي هو الطاغي على باقي النشاطات، وتضخّم باستمرارٍ على حسابها. «الرأسمالية التمويلية» ابتدأت من لبنان. لهذا السّبب يزعجني من يقول بأن الحريري كان يخطّط لبلد خدماتٍ وسياحة، فحتى هذا ليس صحيحاً: السياحة والخدمات – بمعناهما الحقيقي والأصلي – تستلزمان بنى تحتيّة ممتازة، وكهرباء واتصالات، وبيروقراطية فاعلة. ما حصلنا عليه فعلاً هو نظامٌ ماليّ حاكم، يهيمن على كلّ ما عداه، يعتاش على استيلاد الدّيون الدفترية، ويخلط – كما كتب شربل نحّاس – بين مفهوم الدّين والدّخل.
هذا التغوّل المصرفي لم تكن أسبابه داخليّة، ولا يمكن فهمه الّا باعتباره جزءاً من عمليّة أكبر تجري على مستوى العالم. أموال النّفط تدفّقت إلى لبنان، يكتب حوراني، لأنّ قطاعه المصرفي لعب دوراً «وسيطاً» محدّداً: رساميل النفط تريد منفذاً لها، والقوى الغربية تريد وسيلةً للسيطرة على هذه الأموال وضمان أن تتدفق إلى اقتصادياتها في أميركا وأوروبا. من هنا، كانت أكثر المصارف اللبنانية تعمل وفق شراكاتٍ مع مؤسسات غربية، أو تفتح لها فروعاً في الغرب، تنقل إليها أكثر الودائع العربية، ويتم استثمارها هناك في سوق الأسهم والعقارات والعملات (لهذا السبب كان «انترا»، وغيره من المؤسسات المالية اللبنانية في تلك المرحلة، تمتلك أصولاً كبيرة في الغرب، وعقارات وأسهماً في شركات صناعية كبرى، فيما لا استثمارات ولا تسليف في لبنان تقريباً خارج القطاع العقاري).
في هذا السياق، من يطغى هي الشخصية التي تجمع في يديها هذه الخيوط المتشابكة للمصالح المالية: الغرب، الخليج، لبنان، أي شخصيّة الـ«سوبر سمسار». خلال الحرب الأهليّة، صعدت أكثر من شخصيّةٍ من هذا النمط ضمن الصراع على القطاع المصرفي اللبناني وبناء شبكاتٍ جديدة تحت إشراف الميليشيات وسلطتها. يكتب حوراني عن شبكة «الكتائب» وأمين الجميّل، التي ترأّسها روجيه تمرز (وأمسكت، في الثمانينيات، بأكثر من ربع القطاع المصرفي اللبناني قبل أن تنهار)، وعن شبكة بنك «مبكو» وأحمد الجلبي، الذي غطّته «حركة أمل» وموّل رجال أعمالٍ شيعة قريبين منها. الشخصيتان، تمرز والجلبي، كانت ميزتهما هي في ارتباطهما بهذه المصالح العالمية: رجلٌ في أميركا ورجلٌ في الخليج. كان كلّ منهما بمثابة «حريري صغير». هذا قبل أن يظهر الحريري، وخلفه المال السعودي وحلفٌ تحت جناحيه من رأسماليين لبنانيين (بينهم «أوليغارشيون» قدامى، مثل آل القصار وآل قصير، وبينهم مالٌ محدث، وبينهم مصرفيون كانوا من الصف الثاني، مثل آل عودة، جعل الحريري مصرفهم من الأكبر لبنانياً). في الفترة ذاتها التي تمّ فيها توقيع اتفاق الطائف وتصديقه، كان الحريري يبسط سيطرته على جمعيّة المصارف وبعدها على حاكمية مصرف لبنان بالكامل، ليمسك بقياد البلد حقّاً ويبدأ عهدٌ جديد.
بالنسبة إلى نجيب حوراني، هذا هو التاريخ الحقيقي للحرب الأهلية اللبنانية (وهو ينفي صيغة أنها انتهت «بلا غالب ولا مغلوب»)، وهي لم تكن حصراً كما يراها الكثيرون مجرّد حربٍ بين طوائف وأيديولوجيات. هذا الموقع للبنان في النظام العالمي هو ما حكم تطوره التاريخي، ومسار سلمه وحروبه. ليست هذه هي المرّة الأولى التي تسقط فيها مصارف لبنانية بسبب «النموذج» الذي اعتمدته، عدا عن مشاكل «انترا» وأزمات الستينيات، تعرّضت أكثر من مجموعة مصرفية – خلال الثمانينيات – لإفلاسٍ وانهيارات بسبب رهاناتها في الأسواق العالمية ومضارباتها على العملات وغيرها. إحدى هذه الأزمات في أواخر الثمانينيات، يروي نجيب حوراني، استلزمت حزمة إنقاذٍ كبرى من مصرف لبنان، لا نعرف إلى اليوم تفاصيلها. ولكن هذا السقوط مختلف. مع عهد الحريري، لم يعد لبنان معبراً للرساميل الدولية وخسر دوره الأصلي، فقد أصبحت للخليج مؤسساته المالية الخاصة، وتشابكت مع المصالح الغربية بشكلٍ مباشر. بدلاً من ذلك، اعتاش القطاع المصرفي، منذ التسعينيات، على الشكل الأقصى من «الرأسمالية التمويلية»: الديون التي تولّد ديوناً ويُخلق حولها اقتصاد، وهذا البناء اليوم ينفجر من داخله.
قبل أن يزورنا الجوع
المصارف قد تنهار والودائع قد تختفي، ولكن القوى الدولية والمحلية التي تقف خلفها ستظلّ موجودة وحاضرة – إياك أن تقلل من قدرة القوة والسلطة على إعادة تكوين نفسها (حالة مصر، بعد 2011، هي مثال). كما حصل خلال الحرب الأهلية، سيكون الصراع بين مراكز القوى هذه، وحولها، قائماً ومستمرّاً لحكم لبنان وتقرير مستقبله، أو أنّ بلدنا قد خسر فعلاً مبرّر وجوده، ولم يعد وعد «الازدهار عبر الاقتصاد الحرّ»، الذي شرّع النّظام الطائفي منذ الثلاثينيات، مطروحاً من الأساس.
لم يعد من مجال كبير للتفاؤل لأنّه قد أصبح من الواضح بأنّه لا توجد في البلد بنية سياسية (داخل وخارج السلطة) أو اجتماعية أو إعلامية تقدر على الإحاطة بالكارثة والتعامل على مستوىً يوازي حجمها. والقوى الحرّة من التبعية للسلطات أعلاه ولمصالحها نادرةٌ ومعزولة إن كنّا في لبنان، بعد كلّ ما جرى وكل الكلام الذي قيل، لم نصل الى إجماعٍ على رفع التأمين على الودائع وتأمين مدّخرات الناس العاديين، فهذا مؤشّرٌ بالغ السوء (حتى نفهم سهولة الفكرة وضرورتها: أكثر من تسعين بالمئة من المودعين – مليونان ونصف مليون حساب – يملكون أقل من 15 بالمئة من مجمل الودائع. أي أنه بالإمكان تغطيتها بسهولة وضمان حقوق هؤلاء جميعاً على الفور). لا يوجد إلى اليوم اقتراح جدّي، من المفترض أن يؤيده الجميع وأن يحظى بإجماع واسع، بكشف حسابات وأملاك الشخصيات العامة وعائلاتهم وإتاحتها للعموم؛ وكلّ الكلام عن الفساد، ودفاع أي سياسي عن نفسه، لا يعني شيئاً طالما أننا نتكلّم «في الغيب»، وهم يخفون أوراقهم، ولا نعرف ما في حساباتهم (هذه المسألة ليست بالسهولة التي يتصوّرها البعض، وهي لن تحصل لا لأن السرية المصرفية ثمينة في لبنان، بل لأن رفعها سيكشف التداخل بين أصحاب المصارف والتجار وأهل السياسة، أي أنه سيعرّي «النظام» بالكامل).
تأميم المصارف المفلسة ليس اقتراحاً «اشتراكياً»، بل هو إجراء لحماية المودعين والاقتصاد
من هنا، فإن تأميم المصارف المفلسة ليس اقتراحاً «اشتراكياً» وجذرياً كما يُقال، بل هو إجراء يتّخذ خصيصاً في حالاتٍ كهذه لحماية المودعين والاقتصاد، ومنع المالكين وكبار المستثمرين من الفرار بأموالهم (والعمليّة ليست معقّدة، تأميم بنك «ا بي ان امرو» الهولندي، في أوائل الألفية، جرى فعلياً عبر تعيين شخصٍ واحد يشرف على أصوله ودفاتره في المرحلة الانتقالية). «الاشتراكية»، على أي حال، هي ليست شيئاً «تقرّره» أو تحققه فوراً عبر قانون، وأنت في بلدٍ لا يملك القدرة الإدارية والفكرية والسياسية على تغييرٍ من هذا النمط. «الاشتراكية»، إن كان لها أن تكون، يجري بناؤها بإرادة ولا «تحصل» فجأة. ولكن من الطريف هنا أن الكثيرين من الخبراء لا يزالون يحذروننا منها ويصمونها بالفشل، ونحن وسط نظامٍ رأسمالي يتهاوى من حولنا، وقد ضاعت الثروة الوطنية وشلّ الاقتصاد وسندخل قريباً في المجهول، وأكثر الخبراء لا يزالون متمسّكين بالأسس الرأسمالية لهذا النظام. ماذا كان سيقال عن الاشتراكية لو أنّها أوصلت إلى فشلٍ من هذا النّوع؟
في هذه الأثناء، يهرع كلُّ من في البلد لإنقاذ نفسه قبل أن يأتي السّقوط، والفقير يحاصره الجوع. في الذّاكرة الشعبية اللبنانية قصّةٌ من هذا السّياق: يُقال إن جمال باشا كان يجول بيروت معتلياً جواده أيّام المجاعة، في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى. لاحظ الحاكم العسكريّ رجلاً مهيب البنية، ضخماً وطويلاً، يمرّ من أمامه، ولكنّه ما لبث أن ترنّح فجأة ووقع أرضاً ليستقرّ بلا حراك. استفسر جمال باشا من أعوانه عمّا حلّ بالرّجل فقالوا له إنّ الجوع قد أنهكه فسقط ميتاً. عندها، نظر الباشا إلى الجثّة مخاطباً، قبل أن يعبر من فوقها باحتقار: «أنت رجلٌ قويّ، أمامك المتجر مليءٌ بالأطعمة، من كان سيمنعك من أخذ ما تريد؟ كيف تسمح للجوع بأن يتمكّن منك؟».