تزامُن الإنهيارين الإضافيين بالليرتين اللبنانية والسورية قبل نهاية العام 2022، لم يكن مجرّد صدفة. فعلى الرّغم من التأثيرات السلبية الداخلية الكثيرة على سعر الصرف في كل بلد على حدة، فقد ارتبطت الليرتان «الركيكتان» بعلاقة طردية منذ بدء الأزمة اللبنانية. إذ في كل مرة كان يفشل فيها النظام الأسدي بتحقيق الإستقرار النقدي لأسباب بنيوية داخلية، أو كنتيجة لضغوط خارجية، تشح العملة الخضراء في الأسواق السورية، وتحلّق عالياً في الأسواق اللبنانية.
في الوقت الذي بات فيه سعر صرف الليرة اللبنانية على بعد رمية حجر من تحقيق توقّعات «بنك أوف أميركا» بوصوله إلى 46500 ليرة، كانت الليرة السورية تهوي للمرة الأولى إلى أكثر من 6300 ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء. ومثل كل مرة، فإن التتبّع الجغرافي لسعر الصرف في الأسواق اللبنانية، يظهر تركّزاً بالطلب على الدولار في منطقة البقاع، وتحديداً في عاصمته الإقتصادية شتورة، حيث ينتشر العدد الأكبر من الصرافين الشرعيين وغير الشرعيين. وقد أوضح عدد من الصرافين أن هناك طلباً كبيراً على الدولار من التجار السوريين، نتيجة عجزهم عن تأمين العملة الصعبة بكميات كافية من السوق السوداء السورية.
إرتفاع الطلب السوري على الدولار
ما يساعد على زيادة طلب السوريين على الدولار من السوق اللبنانية، هو «شح النقد الصعب في سوريا نتيجة اشتداد العقوبات على النظام، ووجود صرّافين في لبنان يبدّلون الدولار بالعملة السورية»، برأي الخبير الإقتصادي وليد أبو سليمان. «هذا بالاضافة إلى تواجد أكثر من 2 مليون نازح سوري يتنقل القسم الأكبر منهم بحرية مطلقة بين البلدين. وتعمّد آلاف التجار والصناعيين والحرفيين إلى نقل مصالحهم إلى لبنان بعد نشوب الحرب في سوريا في العام 2011». ووفقاً لقاعدة العرض والطلب، فإن الزيادة في الطلب على العملة، مثله مثل الطلب على أي سلعة أخرى، يؤدي إلى ارتفاع سعرها، ولا سيما إن كان مترافقاً مع تراجع في العرض.
أسباب زيادة الطلب عديدة
كل هذه العوامل تشكّل زيادة ظرفية بالطلب على الدولار من قبل السوريين المقيمين في لبنان لتأمين متطلّبات مصالحهم في لبنان، أو تلك القائمة في سوريا. وأيضاً من أجل تلبية مخطّطات النظام السوري لدعم الليرة السورية. ففي تموز من العام 2020 أصدرت حكومة النظام قراراً يفرض على كل مواطن سوري يدخل البلاد تصريف 100 دولار أميركي إلى العملة المحلية، وفق سعر صرف المصرف المركزي السوري (3015 ل.س). وإذا افترضنا أن 50 ألف سوري فقط يعبرون من لبنان شهرياً إلى سوريا عبر البوابات البرية أو الجوية الشرعية، فهم يشكلون طلباً على شراء الدولار من لبنان يصل إلى 5 ملايين دولار. هذا مع العلم أن أعداد الذين يذهبون شهرياً إلى سوريا قد يكون أكبر بكثير.
إلى جانب هذا الرقم، فإن أعداد العمالة السورية في لبنان والتي تقدّر بنحو مليون عامل، تحوّل جزءاً مما تتقاضاه إلى الدولار بشكل فوري خوفاً من فقدان قيمته. وإذا افترضنا أن متوسط يومية العامل السوري 300 ألف ليرة، يحول ثلثها، أي 100 ألف ليرة، على أقل تقدير، إلى الدولار، فإن طلبهم على العملة الصعبة قد يصل إلى 2 مليون دولار يومياً في معظم أيام السنة. وذلك بحسب سعر صرف اليوم في لبنان، أي 43 ألف ليرة للشراء.
الأسباب البنيوية
كل هذه العوامل الظرفية قد تبدو بسيطة أمام «الخلل البنيوي في الإقتصاد اللبناني بحد ذاته، وترابطه العضوي مع الاقتصاد السوري»، يقول مدير مركز الشرق للبحوث-دبي (ORC) د. سمير التقي. فـ»لبنان مكشوف على تداعيات الاضطرابات السورية التي حصلت سابقاً، والتي من المتوقع أن تحصل بوتيرة متزايدة في الفترة المقبلة. الأمر الذي يجعل من الليرة اللبنانية عرضة أكثر لمخاطر الانهيار، والتأثر سلباً بالمشاكل التي تعاني منها سوريا». و»ما يزيد الطين بلة»، هو أن «الاقتصاد اللبناني يعمل ويتنفّس من خلال الإقتصاد السوري»، يضيف التقي. و»قد تجاوزت حصة سوريا مثلاً من مجمل ما استورده لبنان في فترة من الفترات الـ60 في المئة. والمشكلة بأن ما يستورد من لبنان لصالح سوريا لا تعود عوائده للدخول في الإقتصاد الشرعي. إذ إن الجزء القليل من البضائع المستوردة يذهب من خلال شبكات التهريب إلى الداخل السوري، أما الجزء الأكبر فهو يذهب إلى جيوب المافيا ورجال العمال الذين يديرون هذه العملية. ولا شيء منها يعود إلى الإقتصاد اللبناني الأبيض». وبرأيه فقد «أعيد تشكيل الاقتصاد اللبناني لكي يكون طفيلياً من جهة، والنافذة التي يتنفّس بها الاقتصاد السوري خاصة في مجالات الإقتصاد غير المشروع والتي تنمو في الظل في الجهة الأخرى».
انهيار الليرة السورية
تداعيات هذا الإرتباط لم تظهر إلى العلن بشكلها الفاقع، قبل بدء الإقتصاد اللبناني بالإنهيار في منتصف العام 2019. فالأكلاف الحقيقية على الإقتصاد اللبناني كانت مغطاة بقشرة سياسة تثبيت سعر الصرف ونظام «بونزي» اللذين اعتمدهما حاكم المصرف المركزي. وأولى بوادر التأثر السلبي بدأت بالظهور مع مطلع كانون الأول من العام 2019، أي بعد أيام على انتفاضة 17 تشرين الأول. وقد وصلت الليرة السورية إلى أدنى مستوياتها التاريخية، مسجّلة 1000 ليرة مقابل الدولار في حين أن السعر الرسمي كان بحدود 434 ليرة للدولار. واستمرت الليرة السورية بالتراجع أمام الدولار خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة حتى وصلت مؤخراً إلى 6300 ليرة مقابل الدولار. واللافت أن الليرة السورية خسرت من قيمتها بين العامين 2018 و2022 حوالى 90.4 في المئة. إذ انخفضت من 48 ليرة في العام 2011 إلى حدود 600 ليرة في العام 2018، فيما تراجعت إلى أكثر من 6000 ليرة بين 2018 والعام 2022. وهذا يعود بطبيعة الحال إلى عجز لبنان عن تأمين العملة الصعبة بالكميات الكافية للبنان وللنظام السوري.
إعادة تعريف الاقتصاد
وعليه يمكن الإستنتاج بأن «مشكلة ارتباط الاقتصاد اللبناني بالنظام السوري تتطلب أولاً، إعادة تعريف الاقتصاد وتشكيله من جديد. بحيث يكون مبنياً على قيمة مضافة حقيقية وليس فقط على دور الوسيط (الشرعي وغير الشرعي) بين الاقتصاد السوري والاقتصاد العالمي. وتتطلب ثانياً حل الأزمة اللبنانية، وسيادة القانون، وضبط أوضاع المصارف، وكل ما يتعلق باقتصاد الظل»، بحسب التقي. فالشعب اللبناني قادر، وهو يمتلك من الحيوية ما يكفي لإعادة تشكيل اقتصاده، بعيداً من أن يكون مجرّد نافذة للاقتصاد السوري. ولديه من القيم المضافة الخاصة ما يكفي لإعطائها الأولوية، بدلاً من أن يبقى كملحق بالنظام السوري».