في أولى ساعات صباح أمس الأربعاء، كان سعر صرف الدولار في السوق الموازية قد لامس 40,150 ليرة لبنانيّة، في حصيلة موجة من الارتفاعات المتتالية والمستجدة، التي بدأت منذ مطلع هذا الأسبوع. وبذلك، تكون الليرة اللبنانيّة قد خسرت جميع المكاسب التي حققتها منذ 23 تشرين الأوّل الماضي، بعد الانخفاض السريع في سعر صرف الدولار الذي جرى في ذلك الوقت، بمجرّد إعلان مصرف لبنان عن إيقاف عمليّات شراء الدولار عبر منصّة صيرفة واكتفائه ببيعه. مع الإشارة إلى أنّ سعر صرف الدولار انخفض يومها نتيجة هذا الإعلان من 40,600 ليرة للدولار في 23 تشرين الأوّل إلى أقل من 34,800 ليرة في 25 تشرين الأوّل.
لكن في النتيجة، وخلال يومين فقط، عاد سعر صرف الدولار ليرتفع بسرعة منذ يوم الإثنين، ليتجاوز حدود 40 ألف ليرة يوم أمس، قبل أن يعود ويستكمل ارتفاعاته المتتالية اليوم. وهذه التحوّلات المستجدة في سوق القطع، فاجأت البعض هذا الأسبوع، لتعارضها مع بعض التطوّرات التي كان مفترض أن تدفع سعر الدولار للانخفاض لا الارتفاع كما حصل. إلا أنّ متابعة المؤشّرات الماليّة الأساسيّة خلال الأسابيع الماضية، سرعان ما تظهر أن ما يجري هذا الأسبوع كان نتيجة طبيعيّة لبعض الإجراءات السابقة التي حمّلت السياسة النقديّة أكلاف معالجات معيّنة، وخصوصًا تلك المتصلة بقطاع الكهرباء.
أسباب تفاجؤ البعض
عمليًّا، وبالنسبة لبعض المراقبين، كان من المفترض أن يستمر سعر صرف الدولار بالانخفاض، لا العكس. فتوقّف مصرف لبنان عن شراء الدولار من السوق عبر المنصّة، كما أعلن بالفعل منذ 23 تشرين الأوّل، يعني أن هناك كتلة من الدولارات التي ستُضاف إلى المعروض النقدي بالعملة الصعبة، بدل أن يمتصّها مصرف لبنان كما كان يجري في العادة. وهذا التطوّر كان يجب أن يساهم بالاستمرار بضغط سعر صرف الدولار نزولًا، بخلاف ما جرى مؤخرًا. مع العلم أن بيان مصرف لبنان أعلن في الوقت نفسه عن الاستمرار ببيع الدولارات عبر المنصّة، رغم توقّفه عن شرائها، ما يفترض أن يزيد أيضًا من المعروض النقدي بالعملة الصعبة.
في الوقت نفسه، حملت الأسابيع الماضية مجموعة من التطوّرات الإيجابيّة على المستوى السياسي، وأبرزها توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحريّة في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي. وهذا التطوّر من المفترض أن يعني أوّلًا فتح الطريق أمام استكمال التنقيب عن الغاز ومن ثم استخراجه في البلوك رقم 9، كما سيعني ثانيًا تفادي سيناريوهات التصعيد العسكري على الحدود الجنوبيّة. وفي الوقت نفسه، ورغم دخول لبنان في مرحلة الفراغ الرئاسي بعد مغادرة عون قصر بعبدا في نهاية الشهر الماضي، ورغم إصدار الرئيس مرسوم قبول استقالة حكومة ميقاتي، تم تمرير تلك التطوّرات من دون أن نشهد سيناريوهات كارثيّة ومفاجئة، كالتي خشي منها كثيرون، من قبيل حصول تعدد في المرجعيات التي تدعي صلاحيّة إدارة السلطة التنفيذيّة (كما حصل بعد انتهاء ولاية أمين الجميّل سنة 1988).
باختصار، كان هناك ما يكفي من أسباب دفعت البعض للاعتقاد أن سوق القطع مقبلة على تهدئة لا تشبه ما حصل خلال هذا الأسبوع، وهو ما يفترض أن يدفع إلى البحث عن المؤشّرات الماليّة التي تقف فعلًا خلف هذا الارتفاع في سعر صرف الدولار.
ثمن السياسة النقديّة
البحث عن أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار، يقودنا تلقائيًّا إلى الحديث عن أكثر من 29.95 ألف مليار ليرة من النقد الذي جرى ضخّه بالليرة في السوق الموازية، بين منتصف شهر أيلول وأواخر شهر تشرين الأوّل الماضي. وهذه الكتلة من النقد بالعملة المحليّة، هي ما تحوّل اليوم إلى مصدر إضافي من مصادر الطلب على الدولار الأميركي، إذ أن أي قيمة إضافيّة من السيولة بالليرة في السوق ستتحوّل –في ظل الظروف الراهنة- إلى طلب على الدولار للادخار أو الاستهلاك. مع الإشارة إلى أنّ قيمة النقد المتداول بالليرة بالسوق لم تكن تبلغ سوى 45.1 ألف مليار ليرة في منتصف أيلول الماضي، أي أن ما جرى ضخّه من نقد بالعملة المحليّة منذ ذلك الوقت يوازي ثلثي قيمة النقد الموجودة أساسًا.
ببساطة، لا يمكن لأي تطوّرات سياسيّة إيجابيّة، مهما كانت أهميّتها، أن تعوّض الضغط السلبي الناتج عن تحوّلات نقديّة بهذا الحجم. مع العلم أنّ ضخ النقد بالليرة جرى تحديدًا لشراء سيولة بقيمة 657 مليون دولار، وضمها إلى احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، وهو ما عنى حرمان السوق من كتلة ضخمة من المعروض النقدي بالعملة الصعبة (راجع المدن).
معالجة أزمات أخرى
لفهم أسباب ما قام به مصرف لبنان، على مستوى شراء الدولار بنهم من السوق الموازية، وعلى مدى أكثر من شهر ونصف الشهر، ينبغي العودة إلى المعالجات الأخرى التي تقوم بها الحكومة والمصرف المركزي في ملفّات أخرى، وأبرزها ملف الكهرباء. فالمصرف تعهّد بتأمين 100 مليون دولار شهريًّا، وعلى مدى الأشهر الثلاثة المقبلة، ابتداءً من شهر كانون الأوّل، لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان (راجع المدن). وحسب هذا التعهّد، سيقوم المصرف المركزي ببيع الدولارات لمؤسسة الكهرباء، بسعر المنصّة، بعد أن تقوم المؤسسة ابتداءً من هذا الشهر بزيادة التعرفة وتحصيلها على سعر المنصّة أيضًا. وبهذه الطريقة، ستتمكن المؤسسة من إعادة الانتظام المالي لعمليّاتها، ما سيسمح بتأمين الفيول لمعامل الكهرباء ورفع معدلات التغذية إلى مستويات تتراوح بين 8 و10 ساعات في اليوم.
وبهذه الطريقة تم تحميل السياسة النقديّة وزر هذه المعالجات، على أهميّتها بالنسبة إلى قطاع الكهرباء. وعلى مدى الأسابيع المقبلة سيكون على اللبنانيين تحمّل آثار الزيادات التي جرت في قيمة السيولة المتداولة بالليرة في السوق، على شكل انخفاضات مستمرّة في قيمة الليرة اللبنانيّة. إلا إذا كان في جعبة مصرف لبنان أرنب ما شبيه ببيانه الذي صدر في 23 تشرين الأوّل الماضي، بما يمكن أن يؤثّر على موازين العرض والطلب لفترة محدودة جدًا، قبل أن يعود الدولار لتسجيل ارتفاعاته المعتادة.