دولار المنصوري “يتنحنح” صعوداً…

يبدو أنّ بيان نوّاب الحاكم الأربعة الذي هدّدوا فيه بالاستقالة لم يؤتِ ثماره. خطوتهم التصعيدية فُهمت بغير مكانها ووُضعت في خانة تحدّي السلطة السياسية، فوصل المطاف بالسلطة إلى حدود الإيحاء والتهديد بإلزامهم بالاستمرار في العمل، حتى بعد الاستقالة. بل أدّت خطوته إلى زعزعة استقرار سعر الصرف وارتفاعه بحدود 400 ليرة وصولاً إلى 91,300 للمبيع و91,600 للشراء.

ربّما كانت خطوة نواب الحاكم الأربعة صادقة في تعبيرها عن عمق الأزمة وفي توصيف العقم الإصلاحي لدى السلطة، لكنّ الخطوة “في السياسة” بدت وكأنّها “دعسة ناقصة” غير محسوبة التبعات، فأُسيء تفسيرها وأُخذت إلى مكان مختلف. وهذا ما دفع بنوّاب الحاكم الأربعة إلى ما يشبه العودة خطوة إلى الوراء.

تكشف أوساط النواب الأربعة أنّهم أعلنوا انفتاحهم على كلّ الاحتمالات، خصوصاً بعد ردّ الفعل العاصف من كلّ الاتجاهات على بيانهم التهديدي، وارتداداته التي انعكست تذبذباً في السوق.

يمكن القول اليوم إنّنا عدنا إلى المربّع الأوّل، إلى سرديّة ما قبل “البيان” يوم كان المسار الطبيعي والقانوني هو السائد: النائب الأول وسيم منصوري سيكون في أوّل آب حاكماً لمصرف لبنان و”نقطة على سطر جديد”، على الرغم من حال الضياع التي تسود مصرف لبنان اليوم، بحسب ما تكشف المصادر.

“صيرفة” أولى الإشارات

تكشف المعلومات أنّ بعض الناس فقدت حماستها للانخراط في منصّة “صيرفة” بعدما تسلّل الخوف إلى نفوسهم بعد ذاك البيان والحديث عن الاستقالة واحتمال توقّف “صيرفة”، فعادت إلى الأذهان تلك التجارب التي أدّت إلى احتجاز أموال المواطنين في المصارف وانتظارهم لأسابيع وأشهر من أجل استردادها أو استبدالها بالدولارات، بعدما ارتفع سعر الصرف إلى ما فوق الأسعار التي ثبّتوا عمليّاتهم بموجبها.

لا شكّ أنّ البيان أحدث صدمة في السوق، وبات اللبنانيون يترقّبون ما ستؤول إليه الأمور في مهلة الأيام الباقية حتى نهاية شهر تموز الحالي (موعد انتهاء ولاية سلامة)، ولهذا دخلت الشائعات التي تتحدّث عن قرب توقّف “صيرفة” بقوّة على خطّ الأزمة، وهو ما أوحى بأنّ الاستقرار الذي أرسته “صيرفة” لأشهر بات مهدّداً.

تراجع الناس عن إجراء عمليات “صيرفة”، وهذا يعني أنّ فائض الليرات التي يُضطرّ مصرف لبنان إلى ضخّها في السوق مرغماً سيرتفع، وذلك كفيل بمفاقمة التضخّم، بل ربّما يعود الناس بعد ذلك إلى التهافت على شراء الدولارات من الصرّافين، الذين تحوّلوا “بسحر ساحر” خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة إلى ما أشبه “Brokers” لدى مصرف لبنان.

قد تتأزّم الأمور أكثر من ذلك، خصوصاً إذا لمس المواطنون أنّ عمليات “صيرفة” بدأت بالتراجع أو بالتأخّر. وهذا سيعني حتماً أنّ سعر صرف الدولار ربّما يعود إلى الارتفاع إلى المستويات التي شهدناها قبيل تفعيل المنصّة مطلع شهر آذار الماضي.

مضمون سليم في توقيت مؤذٍ

تطرح هذه المعطيات السؤال التالي: هل نوّاب الحاكم على استعداد لمواجهة هذه النتيجة على الرغم من كلّ الملاحظات التي يبدونها حيال طريقة عمل “صيرفة”؟ هل هم قادرون على مواجهة السلطة السياسية بـ”صدورهم العارية” وهم أنفسهم يشتكون من تقاعسها عن تمرير القوانين الإصلاحية اللازمة والمطلوبة من المجتمع الدولي؟
تكشف أوساط النواب الأربعة عن انتصارات متواضعة، فتقول إنّ خطوة نواب الحاكم استطاعت أن تحقّق انتصاراً يتيماً في حمأة ما حصل، وهو إخراج الجدل المذهبي المتّصل بتولّي “شيعي” للحاكمية المخصّصة لموارنة من التداول. لكن في المقابل، تأخذ أوساط نوّاب الحاكم على الإعلام والرأي العامّ أنّهم أهملوا تقصير الحكومة والبرلمان، وركّزوا على تهديدهم بالاستقالة، فيما هم يرون أنّ هذا التهديد هو من باب “دقّ ناقوس الخطر” ليس إلّا، في حين أنّ المطلوب كان التصويب على تقاعس تلك السلطة عن إقرار مجموعة من القوانين يعتبرها نواب الحاكم “جوهرية” لاستمرار العمل في مصرف لبنان بعد رحيل الحاكم رياض سلامة. وهذه القوانين هي: “الكابيتال كونترول” و”هيكلة المصارف” و”الانتظام المالي”.

إضافة إلى هذه القوانين، يطالب نواب الحاكم السلطة اليوم بإقرار موازنة “من دون عجز” (موازنة عام 2023) وبواردات قادرة على سدّ النفقات الحكومية ومن ضمنها طبعاً رواتب القطاع العامّ، التي انتفخت أخيراً بمقدار 7 أضعاف، ووصلت تكلفتها الشهرية إلى نحو 75 مليون دولار شهرياً، ولهذا كان نواب الحاكم منذ آب 2020 يبعثون دورياً بكتب إلى الحكومة يحذرونها فيها من مغبة الاستمرار في سياسة الدعم وعدم قانونيتها، لحماية أنفسهم من المساءلة والتبعات القانونية على غرار ما يحصل اليوم.

أمّا لناحية الاستمرار في منصّة “صيرفة”، فتقول المصادر إنّ نواب الحاكم ليسوا مع إلغاء المنصّة بالمطلق. بل هم مع تطويرها بحيث تساهم في استقرار سعر الصرف من خلال آليّة جديدة تنظّم عملية بيع الدولارات بشكل شفّاف وتقطع الطريق أمام استفادة المضاربين. وفي هذا الصدد تقول مصادر مصرف لبنان إنّ الأسبوعين المقبلين ربّما يكونان حاسمين في رسم تلك الآليّة التي يُفترض أن تكون “جائزة الترضية” للحفاظ على ماء وجه نوّاب الحاكم

لماذا الخوف من “صيرفة”؟

يبدو أنّ “الخوف” من عمل المنصّة الذي يُظهره نوّاب الحاكم نابع من النقاط التالية:

1- كان العمل بها أخيراً (مطلع شهر آذار) نتيجة اتفاق بين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير المالية يوسف خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وليس من خلال قرار صادر عن المجلس المركزي في مصرف لبنان، فكأنّ نواب الحاكم يقولون بهذا الكلام: لماذا تحمّلوننا تبعات قرار لم نتّخذه نحن ولم نوافق عليه؟

2- استطاع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تركيب “فريق عمل” للمنصّة مع لوجستيّات شبه مستقلّة عن المصرف المركزي وكادره الوظيفي، من خلال خلق “مفاتيح” خاصّة لتلك اللعبة لا يعلم بها وبتفاصيلها إلّا رياض سلامة نفسه، وربّما بعد رحيله ستختفي أو سترحل معه، وبالتالي قد يعجز المجلس المركزي ونواب الحاكم بطبيعة الحال عن إدارة “صيرفة” بالطريقة نفسها، وهو ما سيؤدّي إلى خلل في طريقة عملها، ثمّ إلى تفلّت سعر الصرف مجدّداً، وهذا ربّما ما يقلق نواب الحاكم الأربعة.

3- الجهات التي تستفيد من “صيرفة” والتي يديرها كاتب عدل من شارع بدارو تحيط بها شبهات تبييض أموال، وشبهات التصاقها بالسلطة السياسية، وهذا بدوره قد يكون عائقاً أمام لجمها أو إقصائها عن عمل “المنصّة”، وهو ما قد يضع أعضاء المجلس المركزي والنواب الأربعة في مواجهة العقوبات الغربية. وهذا ما يفسّر إصرار نواب الحاكم على تعديل آليّة العمل والتدقيق في هويّة المستفيدين.

أمّا الارتدادات التي شهدها السوق في اليومين المنصرمين، فلا يُستبعد أن تكون “هزّة عصا” من الحاكم نفسه بالاتفاق مع السلطة، وذلك للقول لنواب الحاكم: “انظروا إلى ما ينتظركم في حال استمررتم بتهديداتكم وأقدمتم على الاستقالة”.

وسط هذا كلّه، تقول مصادر عليمة ومتابعة لـ”أزمة الحاكمية والمركزي”، إنّ خطوة النواب الأربعة مسدودة الأفق لأنّ التعاميم التي أرساها رياض سلامة باتت بنية تحتية لشكل قانون نقدٍ وتسليفٍ محدّث، بل “سجناً” نقديّاً ومصرفيّاً لا أحد من أعضاء المجلس المركزي يستطيع القفز من فوق أسواره إلّا بقوانين تصدر عن مجلس النواب. وما يطالب به النواب الأربعة هي هذه القوانين نفسها، لكن لا يبدو أنّ السلطة قادرة على تسليف 4 موظّفين كبار داخل الإدارة ما لم تسلّفه للمجتمع الدولي حتى الآن؟

الجواب على هذا السؤال يوم الإثنين، إذ يرشح بحسب المصادر أنّه سيكون لنواب الحاكم، أو ربّما لعدد منهم “كلمة فصل”… فلننتظر.

مصدرأساس ميديا - عماد الشدياق
المادة السابقةالمجتمع يغلي… وبرامج الدعم تترنّح قبل الأفول
المقالة القادمةسلوم: انتشار الأدوية المزورة والمهربة بات لا يحتمل