تتسلّل عملة دولارية جديدة بهدوء إلى السوق اللبنانية. هذه العملة هي “الدولار المشفّر”. هذا الدولار هو وسيلة لشراء العملات المشفّرة، مثل “بيتكوين” و”اثيريوم” و”دودج” وغيرها من آلاف العملات.
وتحويل الدولارات “الكاش” إلى USDT أو تسييل الـUSDT إلى دولارات ورقية “كاش” خارج لبنان، متاح عبر المصارف أو عبر شركات مختصّة تشبه شركات تحويل الأموال. لكن في لبنان تتمّ هذه العملية بشكل مستتر، لأنّ المصرف المركزي يمنع التداول بهذه العملات.
لذا تجد في “زواريب” بيروت وغيرها من المناطق تجّاراً بمنزلة “صرّافين” متخصّصين بـ”الصرافة المشفّرة”، يقفون على هذا الرصيف أو ذاك، يتسلّمون الدولارات الفريش ويحوّلون إلى حسابك دولارات الـUSDT، أو العكس. يتقاضون لقاء ذلك نسبة من الربح تصل إلى 1 أو 2 في المئة. وهي نسبة معقولة، وتقلّ عن النسبة التي “تشفطها” البنوك اللبنانية وشركات تحويل الأموال.
حينما يكون الطلب على الـUSDT كبيراً في بعض الأحيان، نتيجة ارتفاع أسعار العملات الرقمية، يمنح الصرافون الزبائن نسبة من الربح تفوق قيمة الوحدات، أي مقابل تسييل 100 دولار من الـUSDT قد يحصل الزبون على 100.5 أو 101 دولار (0.5 أو 1 في المئة عن كلّ 100 دولار).
هؤلاء “الصرّافون الجدد” لهم زبائنهم الخاصّون، يقصدونهم لتلقّي الحوالات الفردية من الخارج تماماً كالحوالات الآتية عبر OMT أو BOB وغيرهما، وهم موجودون في بيروت والشمال وجبل لبنان والضاحية الجنوبية.
وسيلة تكيّف ماليّ
استطاع اللبناني “الحربوق” أن يستفيد من هذه العملات الجديدة للتكيّف مع أزمته النقدية، وتحديداً أزمة المصارف ومتفرّعاتها، فأضحت عملة رديفة للدولار الورقي الأخضر، يستعملها بعض التجّار لاستيراد البضائع وتحويل الأموال من الخارج إلى داخل لبنان أو العكس. وهذا ما أعفى مستخدميها من التوجّه إلى المصارف أو شركات تحويل الأموال، ووفّر عليهم الجهد والصداع والعمولات الباهظة.
يقول لـ”أساس” محمد ع.، وهو تاجر موادّ غذائية وأدوات تنظيف في بيروت، إنّ كل بضائعه المستوردة من الخارج ثمنها مدفوع بواسطة الـUSDT. يشتريها بداية من هؤلاء الصرّافين بالتجزئة (1,000 أو 2,000 دولار كلّ مرّة)، ثمّ يرسلها إلى الشركة المصنّعة. ويضيف: “أرسل ثمن الكونتينور من خلف مكتبي. لا حاجة لي إلى المصرف أبداً، وأنا بغنى عن زحمته وطوشة الأوراق والمعاملات والمعمولات. في يوم المصرف مقفل، وفي آخر إضراب، وفي ثالث اقتحامات… شو بدّي بهالصرعة؟”.
يضيف محمد أنّ كثيراً من الشركات اللبنانية بات يعتمد الأسلوب نفسه لشراء الملبوسات من تركيا، والإكسسوارات والهواتف والإلكترونيات من الصين. “جميع الشركات في الصين تطلب منك تحويل الأموال عبر الـ USDT، ونادراً ما يطلبون إرسالها عبر المصارف”، لكن يبقى الشرط الأساسي لإتمام هذه العملية هو “الثقة”. فلا بدّ أن تكون “على ثقة بالجهة التي تتعامل معها في الخارج”، إذ يمكن للمتلقّي أن يقول لك: “لم يصلني شيء منك… فهذه العلاقة بيني وبين شركتي في الخارج تمتدّ لسنوات”.
أمّا جمال أ.، وهو صاحب مهنة حرّة في دولة آسيوية، فيقول إنّه يلجأ إلى تطبيق Binance لإرسال مبلغ 500 دولار من الـUSDT لعائلته الموجودة في بيروت. “أرسلها إلى صديق لي في بيروت لأنّه يعرف كيف يسيّلها. تصله في غضون ثوانٍ، ثمّ يقوم بتسييلها لدى أحد المتعاملين بهذه العملة، ويعطي لعائلتي دولارات كاش”. يؤكّد جمال أنّه بهذه الطريقة يتجنّب التحويلات السوداء عبر الصرّافين وشركات تحويل الأموال التي “تقتطع من كلّ 100 دولار 2 في المئة”، إضافة إلى العمولة التي “يدفعها المرسل من أيّ دولة في العالم لشركة تحويل الأموال، وهي ليست قليلة”.
لا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ. فبعض التعاملات التجارية والعقارية باتت تتمّ عبر هذه القناة. تواصل “أساس” مع كاتبي عدل في بيروت أكّدا أنّ بعض العقارات ربّما يتّم بيعها بهذه الطريقة. قال أحدهما إنّه “خلال الأشهر الفائتة مرّت معي حالة واحدة من هذا النوع. أحد الشارين لعقار ضمن بيروت عرض على البائع دفع المبلغ له بواسطة الـUSDT من أجل تسريع الدفع وتوفير عمولة التحويل، لكنّ المالك السبعيني رفض لأنّه لا يعرف هذه العملة وطلب تحويل المبلغ عبر المصرف”. وأضاف كاتب العدل أنّ هذه التعاملات “رائجة غالباً بين الشباب الذين يجيدون هذه التطبيقات. لكن لا يمكننا القول على وجه الدقّة من يتعامل بها من الزبائن. ليس الأمر من وظيفتنا، فنحن نسأل البائع إن كان حصل على المبلغ، فيجيب بنعم. لا يمكننا معرفة نوعية عملة الدفع إن كانت كاش أو بموجب تحويل أو USDT، ولا يحقّ لنا ذكر هذه العملة ضمن العقد”.
إضافة إلى تلك الحالات، أصبحت هذه العملة وسيلة للدفع “أونلاين” من أجل شراء سلع التجزئة من أكسسوارات وألبسة وإلكترونيات، بل حتى في المطاعم (في سوق جبيل مثلاً). وأصبحت أيضاً وسيلة لنقل الأموال من بلد إلى آخر، إذ يكفي أن تحوّل الدولارات “الكاش” إلى USDT ولو كانت 10 ملايين دولار، ثمّ الانتقال بالهاتف المحمول إلى أيّ دولة في العالم، واستخدام تلك الأموال لدفع فاتورة الفندق أو المطعم أو غيرهما (رائجة في تركيا والبحرين والإمارات).
هي مستقبل العالم.. ولا رقابة
يحصل كلّ هذا من دون أن يكون للمصرف المركزي القدرة على رصد الداخل من الأموال، وإحصاء الخارج منها، وفي الحالتين باتت هذه “الصنعة” المستحدثة تأكل من رصيد المصارف “المكربجة” نتيجة الأزمة، ومن رصيد شركات تحويل الأموال الجشعة.
هو أسلوب جديد لنقل الأموال. سبقنا العالم إليه، وقد نكون آخر من سيلتحق به رسمياً. لكنّ اللبناني “الحربوق” الذي لا يفوته شيء، استطاع أن يجترح الحلول لأزمته النقدية في ظلّ هذا النظام المالي والنقدي الجديد الآيل إلى التشكّل، حيث لا رقابة… أقلّه إلى اليوم!
ما هي تلك العملة؟
من أجل التوصيف الدقيق لهذه العملة، بحسب عالم العملات المشفّرة، سُمّيت هذه العملة stable coin، وقد صدر منها أكثر من إصدار، ووظيفتها تحويل الدولارات الورقية أو المصرفية إلى وحدات دولارية لشراء العملات المشفّرة عبر تطبيقات محدّدة مختصّة بالعملات الرقمية (USDT لشركة Tether أو BUSD لتطبيق Binance أو USDC لتطبيق Coinbase.. وقد سمّيت كلّ عملة باسم الشركة التي تصدرها). وهي من حيث التشبيه مثل وحدات الهاتف الخلوي المقوّمة أيضاً بالدولار، والتي تمكّننا من إجراء اتصال بواسطة الهاتف المحمول.
يغطّي الدولار الأميركي “الكاش” هذه العملات. فمقابل كلّ وحدة USDT أو غيرها تصدرها شركتها تودع الشركة (أغلبها أميركية) في المصارف الأميركية دولاراً واحداً من أجل الحفاظ على قيمتها. ولهذا كلّ وحدة USDT تساوي 1 دولار، ولا تستطيع الشركة خلق المزيد منها ما لم تودع في حسابها دولارات فعليّة موازية لِما أصدرته من الـUSDT أو غيرها.