دولة الفراغ تتمدّد وتُهدّد التعافي الاقتصادي

شارف شهر أيلول على الرحيل وحتى اللحظة لا وجود لأي بوادر تُبشّر بأنّ حلول الأزمة اللبنانية باتت في القريب العاجل. فاستمرار سيطرة الأجواء الخلافية والانقسامات العمودية بين الأطراف السياسية الداخلية أصابت بعدواها الجهود الخارجية بحيث تجلّت في إخفاق مبعوث الرئاسة الفرنسية جان إيف لودريان في تقريب وجهات النظر واصطدام مساعيه بحائط اللاتوافق المسدود. كما أنّ السجالات والتباينات في الآراء هيمنت على اجتماع اللجنة الخماسية الدولية المخصّصة لمتابعة الشغور الرئاسي – لا سيما بين الطرفين الأميركي والفرنسي – وبدّدت بدورها الآمال في إحداث أي خرق ملحوظ على صعيد الملف اللبناني الشائك. فالاختلافات البارزة بين أعضاء اللجنة دفعت الى تسليم قطر راية المُبادرة، إذ يترقّب لبنان نتيجة حراك الموفد القطري الوسيط وما يحمله من مُستجدّات وخطوات فاعلة، مع الاشارة إلى أنّ مهمّة إيجاد مخرج للأزمة تقع أوّلاً وأخيراً على عاتق السياسيين اللبنانيين الذين يتحمّلون مسؤوليّة عدم كسر الجمود والتوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية من أجل إخراج البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وعلى الرغم من إعلان المجتمع الدولي مساندته لبنان والوقوف بجانب شعبه، غير أنّ تردّدات الأصداء الايجابيّة تراجعت مع فشل الدول الخمس في إصدار أي موقف أو بيان موحّد تجاه الأزمة اللبنانية، في صورة قلقة تُثير التساؤلات حول ترتيب لبنان في قائمة الأولويات في ظل تبدّل المعطيات والتطورات الاقليمية والدولية الحاصلة. فالاختلاف الخماسي معطوفاً على الارتباك اللبناني ينتظر عودة لودريان المُفترضة وما ستؤول إليه مشاورات الموفد القطري، ومع هذا الانتظار تزداد الأوضاع الاقتصادية المُزرية سوءاً نتيجة استحكام الفراغ بمناصب الدولة الرفيعة ومفاصلها المالية والقضائية والأمنية الرئيسة. فوفق دراسة حديثة أجرتها “الدولية للمعلومات”، يشهد لبنان شغوراً في 100 موقع قيادي من أصل 202، آخرها الشغور في سدّة حاكمية مصرف لبنان والذي حمل الرقم 100، بالإضافة إلى شغور 18 وظيفة قيادية بين شهر تموز 2023، وحتى نهاية العام 2025.

وفي ظل انعدام الحل السياسي، يرزح لبنان تحت سلسلة من الضغوط الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية الخانقة لا سيما مع غياب الاصلاحات والتعثّر في إطلاق خطّة التعافي الاقتصادي وصولاً إلى إعلان صندوق النقد الدولي فشل لبنان في الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاق المبرم في نيسان 2020. ومع دخول لبنان في أصعب مراحله، تُبدي مصادر مصرف لبنان تخوّف الحاكم بالانابة وسيم منصوري وقلقه من شبه انسداد الأفق السياسي خصوصاً في ما يتعلّق بمعضلة انتخاب رئيس الجمهورية. فمنصوري ونواب الحاكم الثلاثة كانوا يعلّقون الآمال على انتخاب رئيس جمهورية يتبعه تشكيل حكومة وتعيين حاكم أصيل لـ “المركزي” يُمسك بزمام السياسة النقدية قبل نهاية العام، إلاً أنّ هذه الآمال تبدو صعبة التحقيق خلال الأشهر القليلة المقبلة، الأمر الذي يضع منصوري تحت ضغط كبير لا سيما في حال تمسّكه بعدم إقراض الدولة من التوظيفات الالزامية لمصرف لبنان وإطلاقه منصة “بلومبرغ” ومدى نجاحها في ضبط تقلّبات سعر الصرف وتخفيف الضغط على اللبنانيين.

وأظهرت أحدث الأرقام الصادرة عن مصرف لبنان تقلّص رصيد حقوق السحب الخاصة التي كان لبنان قد تسلّمها من صندوق النقد الدولي، والبالغة قيمتها آنذاك ما يقارب الـ 1.14 مليار دولار، إلى 76 مليون دولار فقط لتطرح مسألة كيفية توفير الدولارات لدعم الأدوية. أضف إلى ذلك، فقد تراجعت موجودات “المركزي” الخارجية السائلة بالعملات الأجنبية من 8.75 مليارات دولار في تموز إلى 8.498 مليارات دولار في آب مقابل التزامات خارجية بقيمة 1.279 مليار دولار. والأرقام هذه تزيد من تحديات تأمين رواتب موظفي القطاع العام والمتعاقدين والمتقاعدين، في مختلف القطاعات الادارية والعسكرية والتعليمية وغيرها وتمكن مصرف لبنان من تغطيتها نهاية كل شهر. ناهيك عن أنّ من المُتوقّع أن يشهد العام المقبل، استحقاقات بمئات ملايين الدولارات تصل إلى نحو 1.5 مليار دولار، بحيث لا تزال الضبابية تحوم حول كيفية تأمين هذه الأموال في ظل شح دولارات الدولة وعجزها عن تمويل نفقاتها وعدم نجاحها في الاقتراض من “المركزي”.

من جهة أخرى، يستمر لبنان في تكبّد خسائر اقتصادية ومالية وتنموية جراء أزمة النزوح السوري، إذ قدّر البنك الدولي خسائر لبنان من تدفّق اللاجئين بما يقارب الـ7.5 مليارات دولار. وأشار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في كلمته من على منبر الأمم المتحدة، إلى أنّ موجات النزوح المتتالية تُعمّق من أزمات لبنان بعد أن طالت تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية جميع مظاهر الحياة فيه، وباتت تُهدِّد وجوده في الصميم. كما انتقد ميقاتي قصور المجتمع الدولي في عدم تجاوبه مع نتائج هذه المأساة الانسانية، وعدم معالجتها بصورة فاعلة ومستدامة، مُكرّراً دعوته الى وضع خريطة طريق بالتعاون مع جميع المعنيين من المجتمع الدولي، لإيجاد الحلول المستدامة لأزمة النزوح السوري، قبل أن تتفاقم تداعياتها بشكلٍ يخرج عن السيطرة.

بين الفراغ والفراغ الآخر، يواصل لبنان انزلاقه نحو المجهول ويغرق اللبنانيون في دوامة من شتى أنواع الخيبات والمآسي. فدولة الفراغ تغيب عن مسؤوليها الارادة السياسية والنية الحقيقية للإصلاح ليحضر الاستمرار في تضييع الفرص واستباحة الوقت. ويُفاقم الشغور المُتمادي في سدّة الرئاسة الأولى معاناة الوضع الاقتصادي الهش ويزيد من تكلفة النهوض والتعافي ويُعرّض البلاد لخطر حدوث انفجار اجتماعي وفلتان أمني لا تحمد عقباه. لذا، لا بدّ من العمل على تذليل العقبات والتعالي عن الخلافات والإسراع في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يمتلك الرؤية الاصلاحية، إذ لا مفرّ من تطبيق الاصلاحات الهيكلية والضرورية كمدخل أساس ورئيس لإنقاذ البلاد من محنتها.

 

مصدرلبنان الكبير - سوليكا علاء الدين
المادة السابقةزيادة ساعات التغذية الكهربائية: “هدايا” لمناطق وتمييز بين اللبنانيين
المقالة القادمةالانترنت غير الشرعي يحرم الدولة مردوداً مادياً كبيراً