حسمها ديوان المحاسبة لجهة رفضه مجدّداً تلزيم تحالف شركتي COLIS PRIVE FRANCE وMERIT INVEST S.A.L تشغيل قطاع البريد في لبنان. وأصدر أمس قراره الثاني الذي يؤكّد هذا الرفض، وأحاله إلى الغرفة القضائية المختصة في الديوان لإجراء المقتضى. فبقي الديوان بذلك عصيّاً على ما ذُكر عن ضغوطات سياسية، حاولت دعم وزير الاتّصالات جوني القرم في تمسّكه بترسية الصفقة على التحالف، وذلك خلافاً لمصلحة القطاع وخزينة الدولة واللبنانيين عموماً، كما بيّنت تكراراً التقارير الصادرة عن الجهات الرقابية.
هل يقتنع ويُقنع من ورّطوه؟
وعليه صار لزاماً على وزير الاتّصالات أن يقتنع ويُقنع من وضعوه في موقفه المحرج في الدفاع عن صفقة صنّفتها الإحالة إلى غرفة قضائية مختصة بالـ»مشبوهة»، بأنّ المناورات الكلامية أو حتى السياسية، لن تحسّن موقع الشركة التي عدّل دفتر الشروط على قياسها. إذ إنّ الخلل على ما بات واضحاً، يتخطّى المؤهّلات «المفقودة» لدى التحالف، إلى الخلفيات الخفيّة من وراء إطلاق هذه المزايدة منذ البداية، ومحاولات التلاعب بنتائجها سواء من خلال وضع دفتر الشروط ومن ثم تعديله، أو من ناحية فضّ العروض، وتبديل جوهر الاتفاق المالي من تقاسم الواردات إلى تقاسم الأرباح، وغيرها من الأمور التي ذكرها التقرير الأول، والتي ترى مصادر مطلعة أنها تضع المعنيين بهذه المزايدة في موقع شبهة، بدءاً من وزير الاتّصالات إلى مدير عام مديرية البريد، ولجان فضّ العروض، وكل من تورّط بالصفقة منذ البداية.
وكان وزير الاتّصالات جوني القرم قد تقدّم من ديوان المحاسبة في 19 أيلول الماضي بطلب لإعادة النظر بقراره الصادر في 23 آب الماضي والذي لم يقبل بموجبه نتائج المزايدة التي أرستها وزارة الاتّصالات على التحالف. فقبِل الديوان الطلب بالشكل، وعكف على دراسة المستندات التي قدّمتها وزارة الاتّصالات، مستمعاً لإفادات الوزير القرم ومدير عام مديرية البريد محمد يوسف، بالإضافة إلى عقده جلسة استيضاحية مع رئيس هيئة الشراء العام الدكتور جان علية، قبل أن يصدر قراره التأكيدي لقراره السابق.
فرفض طلب إعادة النظر بالمضمون، لكونه «لم يحمل أو يأت، بأي معطى جديد وحاسم من شأنه تغيير نتيجة القرار السابق». إذ إنّ الصفقة بنظر الديوان شكّلت «استسهالاً بتلزيم قطاعاتنا الاقتصادية لشركات غير قادرة على تطويرها على جميع المستويات، ولا سيّما المالية منها والخدماتية».
لمزايدة جديدة
وبالتالي أوصى الديوان مجدداً «بضرورة إجراء مزايدة جديدة في أسرع وقت ممكن». ليعيد على متن قراره تصويب موضوع الصفقة ويحدّدها مجدّداً بـ»تشغيل وتطوير قطاع البريد» بعدما «قزّمتها» التعديلات التي أجرتها وزارة الاتّصالات على دفتر الشروط الأخير، بما يسمح لأصحاب «تراخيص نقل مواد المراسلات وأو الطرود وأو الطرود البريدية وأو الرزم الصغيرة» المشاركة فيها.
إذاً لم يقتنع ديوان المحاسبة، الذي كان قد بنى قراره السابق على قاعدة علمية شمولية، بدفاع وزير الاتّصالات ومدير عام البريد عن نتيجة التلزيم. فدفتر الشروط الذي عدّلته المديرية العامة للبريد على قياس التحالف ومؤهّلاته، بعدما رأت هيئة الشراء العام أنّ هذه المؤهّلات لم تكن مراعية للمطلوب في دفتر شروط جلسة التلزيم الثانية، بالإضافة إلى أحادية العرض الفائز في جلستي التلزيم الثانية والثالثة، والذي مضت الوزارة بقبوله رغم الملاحظات التي وضعتها هيئة الشراء العام، وحتى طريقة إدارة المزايدة التي كشفت النيّات بالنتائج المعدّة سابقاً، ومضي الوزارة بها من دون إعداد أي دراسة مالية تحليلية للمشروع تسمح لها بتحديد الإيرادات الفعلية المتوقّعة، جعلت الديوان أكثر اقتناعاً بمكوّنات قراره السابق، خصوصاً أنّ المستندات التي أبرزتها الوزارة في معرض إصرارها على التوصّل إلى عقد موقّع مع التحالف لمدة تسع سنوات، لم تأت بما يدحض الوقائع التي أوردها القرار الأول للديوان.
وعليه، أكّدت الغرفة الناظرة في طلب الوزير القرم برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر، على الأسباب التي جعلتها ترفض نتائج التلزيم بالأساس. واختزلتها بما يلي:
أولاً: عدم تقيّد الإدارة بالمبادئ الواردة في المادة الأولى من قانون الشراء العام، وهي تعتبر من الانتظام العام ولا يجوز للإدارة مخالفتها تحت أي ظرف أو مسمّى.
ثانياً: غياب الموضوعية والشفافية والدقة والوضوح في دفتر الشروط، وما يعتريه من أخطاء قانونية ومادية، إضافة إلى تضمّنه المعايير الاستنسابية غير القابلة للتطبيق.
ثالثاً: تبديل المؤهّلات الواجب توافرها في العارضين للاشتراك في المزايدة، من دون الالتفات لما لهذه التعديلات من نتائج على عدم نجاح الصفقة وعدم تحقيقها أهدافها، بحيث أصبح بإمكان أصحاب التراخيص الذين يملكون الخبرة في نقل الطرود البريدية المشاركة في المزايدة، وهو ما لا ينسجم ولا يتناسب مع هدف الصفقة المحدّد بتشغيل القطاع البريدي في لبنان، وبتحقيق المنافع الإستراتيجية فيه. ويتعارض مع مبدأ «من يملك الأقل لا يملك الأكثر».
هذا في وقت كان الديوان قد رأى في تقريره السابق أيضاً «أنّ التبسيط والتهوين للمؤهّلات شكل امتيازاً للتحالف الذي أرسي عليه العقد مؤقتاً، طالما أنّه كان الوحيد أو إحدى الجهات القليلة التي تسنّى لها الوقت للتعرّف إلى هذا الواقع بحكم تقدّمه بعرض سابق في الصفقة نفسها»، وذلك في معرض وضعه الملاحظات أيضاً على رفض الجهة الشارية تمديد مهل تقديم العروض التي طالبت بها شركات قامت بسحب دفتر الشروط.
هدر الوقت… لأجل ليبان بوست؟
وانطلاقاً من القرار التأكيدي للديوان، رأت مصادر متابعة أنه كان الأجدر لو حفظ وزير الاتّصالات ماء وجهه، ولم يتقدّم بالأساس بطلب إعادة النظر بقراره السابق. إذ إنه لم يتسبب سوى في هدر وقت إضافي من عملية تلزيم هذا القطاع التي كانت قد أطلقت منذ 16 شباط الماضي. وهو بالتالي بدّد ما يكفي من الجهود التي لو استثمرت في «تلزيم المرفق بشفافية ومردودية أعلى بالنسبة للدولة» لكان قد تأمّن انتقال هذا القطاع وإدارته بشكل سلس لعهدة مشغّل جديد، بعد كل الجدل الذي أثير حول أداء مشغّله الحالي العالق أيضاً في حسابات مالية وقضائية مع الدولة اللبنانية.
إلّا إذا كان المقصود من كل المناورات التي خيضت، الوصول إلى النتيجة السائدة حالياً، أي استمرار «ليبان بوست» بمهامها تحت مسمّى تسيير المرفق العام، علماً أنّ أهمية قرار ديوان المحاسبة هذه المرّة كما ترى المصادر، تتخطّى موضوع الصفقة الحالي، في كونه لجأ إلى»لهجة قوية وكلمات مدروسة» خلقت روادع جديدة، ستجعل كل جهة شارية تتنبّه من عواقب لجوئها إلى الغشّ في مطلق عملية تلزيم تطلق على مستوى المؤسسات الرسمية.