لم تنجح الحملة التسويقية المركّزة التي مضت بها هيئة أوجيرو، مدعومة من وزارة الاتصالات، منذ أشهر، لتمرير صفقة تلزيم خدمة نقل المحتوى التلفزيوني عبر الإنترنت أو ما يعرف بالـ OTT لشركة “وهمية”، وفقاً لما وصفت به من قبل ديوان المحاسبة، بإخفاء “المخالفات والنواقص والتناقضات التي حمّلت ملف التلزيم بالعيوب والشوائب”. فأبطل الديوان الصفقة بعد مذاكرات عميقة لغرفته الثانية برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر وعضوية المستشارين جوزف الكسرواني ومحمد الحاج، دامت نحو أربعة أشهر تقريباً، خالصاً لدعوة وزارة الاتصالات إلى إعادة تكوين الملف من دون إبطاء، بما يتلاءم مع ملاحظاته التي أوردها من ضمن تقرير أحيل على المراجع المختصة بتاريخ 9 تموز الجاري، وحصلت “المدن” على نسخة منه.
ستريم ميديا: هيكل فارغ
يتعلق تقرير الديوان بمشروع اتفاق مع شركة “ستريم ميديا” التي سوّقها وزير الاتصالات جوني القرم ومدير عام أوجيرو، خلال الأشهر الماضية، كمالكة محتوى حصري تلفزيوني وسينمائي، عرضت تقديمه عبر منصة OTT. وقد أحال وزير الاتصالات ملف هذا العقد إلى ديوان المحاسبة لإجراء الرقابة المسبقة. وعلى رغم توقف ديوان المحاسبة عند أهمية تشغيل هذه المنصة، فقد عرّى تقريره وزارة الاتصالات لجهة عدم مراعاتها الأصول المرعية الإجراء في هذا الإلتزام، وخصوصاً بعدما تبين أن الشركة التي وقّع معها مشروع العقد هي فعلياً هيكل فارغ تم تأسيسه في سنة 2022 خصيصاً لغرض التعاقد مع أوجيرو لحيازة هذا المشروع، ما يجعل التعاقد معها مخالفاً لكل الأصول.
فوفقاً لتقصيات الديوان ومذاكراته، لا تملك شركة “ستريم ميديا”، لا مقراً ولا جهازاً بشرياً، ولا خبرة. وهي إلى ذلك ليست مسجلة في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ما يجعلها مستبعدة حكماً من المشاركة في أي صفقة عمومية. كما أنها لم تنفذ أية مشاريع مشابهة، وهي متوقفة عن العمل وليس لديها بيانات مالية ولا تتمتع بأية حقوق حصرية.
هذا في وقت تبيّن لديوان المحاسبة تجاوز الإدارة في مشروع العقد الذي أعدته مع ستريم ميديا، رأسمالها الزهيد الذي بلغ 30 مليون ليرة عند التأسيس أي في سنة 2022، ما يعادل 320 دولاراً، لتسمح لها بإستيفاء دفعة مسبقة من المستخدمين تعادل ثلاثة أشهر من رسوم الاشتراك في المنصة عند بدء اشتراكهم في منصة OTT، وهذا ما أثار استغراب الديوان الذي سأل “كيف يمكن للإدارة أن تتعاقد مع شركة لا تملك قدرات مالية مثبتة، وليس لديها القدرة على التمويل الذاتي، بل ستعتمد على الاشتراكات المدفوعة سلفاً من قبل المستخدمين لتمويل نشاطها”.
الحقوق الحصرية
سمحت الإدارة بذلك من دون أن تقدم الشركة التي وقعّت معها مشروع العقد أي مستند يثبت الحقوق الحصرية التي تزعمها في نشر المحتوى. وقد اكتفت الشركة، بتقديم ثلاث إفادات صادرة عن ثلاث أقنية تلفزيونية لبنانية معروفة، LBCI ،MTV و”الجديد”، من بين 81 قناة قالت أنها ستؤمن الحقوق الحصرية ببث محتواها. ليتبين للديوان أن الإفادات الثلاث حديثة العهد وتعود كلها لسنة 2024، في حين اعتبر الديوان أن الحصرية كان يجب أن تتوفر قبل الشروع بالمفاوضات مع الشركة مالكة الحق الحصري والتي بدأت منذ سنة 2023. هذا بالإضافة لكون الإفادات الثلاث أشارت إلى أن إعطاء الحق الحصري من قبل المحطات التلفزيونية الثلاث معلق على التوصل إلى اتفاق تجاري نهائي بين الطرفين. وفيما لم تحدد الإدارة بوضوح الأقنية المفترض أن تقدمها شركة ستريم ميديا واكتفت بالفقرة 2 من المادة 3 من العقد بعبارة حوالى 81 قناة مقسمة إلى عدة فئات، من دون تعداد القنوات التي سيتم عرضها بشكل واضح أو مواصفات هذه القنوات، اعترفت بكتاب موجه إلى وزير الاتصالات بتاريخ 22 نيسان، أي بعد تسلم الملف من قبل ديوان المحاسبة، أنها سوف تعمل على تأمين الحقوق الحصرية بالبث لباقي القنوات تباعاً، ما يدل على عدم توفر شرط الحصرية لدى الشركة بتاريخ إعداد مشروع العقد الرضائي. وعليه خلص الديوان إلى أن الشركة المنوي التعاقد معها تأسست خصيصاً للتعاقد رضائياً مع وزارة الاتصالات، على أن تقوم لاحقاً، وبعد توقيع العقد معها وحصولها على تمويل من المشتركين في الخدمة، بالتفاوض مع الموردين للحصول على وكالات حصرية بشأن المحتوى التلفزيوني والسينمائي المراد تقديمة. وهذا ما يجعلها وفقاً لديوان المحاسبة شركة وهمية، وبالتالي يكون التعاقد معها مخالفاً لكافة المبادئ المنصوص عنها في المادة الأولى من قانون الشراء العام، التي تفترض تأمين التنافسية والعدالة في إتاحة الفرص.
أجوبة “أوجيرو” الغامضة
هذه الحقائق التي توضحت حول الشركة، قابلها غموض لفّ واقع المنصة التي يفترض أن تقدم الخدمة وفقاً لتقرير ديوان المحاسبة.
فقد ورد في مقدمة العقد، أن وزارة الاتصالات قامت بشراء منصة OTT التي سيتم تشغيلها بواسطة هيئة أوجيرو، وهو ما أكده أيضاً كتاب موجه من شركة ستريم ميديا إلى وزير الاتصالات بتاريخ 20 شباط 2023 يبيّن أن منصة OTT مملوكة من قبل هيئة أوجيرو، وفي كتاب موجه من هيئة أوجيرو إلى هيئة الشراء العام. وكلها كتب تؤكد بأن المنصة جاهزة لدى هيئة أوجيرو. لتنسف كل هذه التأكيدات خلال الجلسات الاستيضاحية التي عقدتها الغرفة الناظرة في الملف لدى ديوان المحاسبة. فلم يقدم مدير عام هيئة أوجيرو عماد كريدية إجابة واضحة، بل قال إن المنصة ستكون مملوكة من وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو، وأنها ستكون جاهزة عند الحصول على الموافقات المناسبة عبر هبة تقدم إلى الهيئة. والتلفزيونات اللبنانية على استعداد لتقديم هذه المنصة في حال الموافقة عليها من قبل ديوان المحاسبة. وهو ما يعني أن المنصة ما زالت غير جاهزة في الوقت الحاضر. فيما صرح وزير الاتصالات لغرفة الديوان الناظرة بالملف بتاريخ 29 نيسان أن شركة ستريم ميديا سوف تقدم المنصة كهبة للدولة اللبنانية. وهذا ما جعل الديوان حائراً في تحديد واقع المنصة الفعلي، “فهل هي جاهزة ومتاحة حالياً وقد تم شراؤها من قبل وزارة الاتصالات، أم أن شركة ستريم ميديا سوف تقدمها كهبة، أم أن التلفزيونات اللبنانية على استعداد لتقديمها على شكل هبة، وهي حالياً غير جاهزة بانتظار الموافقات لقبول الهبة؟”.
مسؤولية وزارة الاتصالات
تقرير ديوان المحاسبة الذي حمّل وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو مسؤولية عرقلة المشروع وتفويت فوائده المرتقبة، إن على صعيد تأمين المداخيل، أو توفير فرص العمل، أو مساندة قنوات البث التلفزيوني المحلية ودعمها، توقف أيضاً عند ما وصفه بعيوب جوهرية رصدها في العقد، لجهة عدم إلتزامها بقانون الشراء العام. وأبرزها ما يتعلق بغياب الإعلان من قبل الوزارة عن نية التعاقد بواسطة الاتفاق الرضائي عبر منصة هيئة الشراء العام. وهو ما عطل حق الاعتراض المكرس دستورياً وقانوناً لدى عارضين قد يملكون المؤهلات لتقديم هذه الخدمة. ما يعرض العقد للإبطال غير القابل للتأييد وفقاً للديوان وهيئة الشراء العام.
هذا في وقت لم تحدد الوزارة بشكل واضح المؤهلات المطلوبة في الشركة المطلوب التعاقد معها. وهو ما اعتُبر أيضاً خلل كبير تسأل عنه الإدارة.
مخالفة أخرى سجلت لجهة السماح بنقل التزامات الشركة إلى طرف ثالث. وهو ما اعتبره الديوان أنه يشكل التفافاً على إجراءات التلزيم الواردة في قانون الشراء العام وعلى رقابة ديوان المحاسبة.
وهذا بالإضافة إلى المخالفات المتمثلة بعدم فرض ضمان حسن تنفيذ، مع أن العقد الموقع مع الشركة نص على سداد المستخدمين دفعة مسبقة تعادل ثلاثة أشهر من رسوم الاشتراك إلى المنصة بمثابة ضمان، وغياب الدراسة عن الأسعار والأرباح المقدرة. مع تسجيل سابقة لجهة فرض الشركة المتعاقدة غرامات تأخير على الدولة عند تأخرها في سداد مستحقاتها، الأمر الذي يخالف أحكام المادة 38 من قانون الشراء العام التي وجدت لتحمي حقوق الدولة ومستحقاتها.