إعترف صنّاع السياسات بمدى خطورة الوضع على المستويات كافة. إلا أنهم لا يزالون يفتقرون إلى الشجاعة الضرورية لإبلاغ الشعب اللبناني بأن الاوقات العصيبة لم تبدأ في الحقيقة بعد، ما يضع لبنان أمام خيار واحد أوحد ليس له بديل: مساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالاضافة الى الدول الصديقة ومجلس التعاون الخليجي. الحكومات المتعاقبة منذ التسعينات كانت هوجاء مالياً، أما المرحلة الراهنة فتتطلب العمل بنصائح من يُدرك تماماً بواطن الامور… قيل الكثير عن خطة الانقاذ الحكومية المسرّبة، وتمّ تناول أدقّ تفاصيلها في الشكل كما وفي المضمون، لكن من دون التطرق الى سُبل المعالجة العلمية منها والعمليّة، وهو ما يُفنّده وزير الاقتصاد الاسبق، ونائب حاكم مصرف لبنان سابقاً د.ناصر سعيدي في هذه المقابلة مع “نداء الوطن”.
ما رأيك بخطة الانقاذ الحكوميّة، وهل تُعتبر كافية للخروج من دوّامة الأزمات؟
لا تزال خطة الحكومة مسودّة، وهي لا تتضمن قرارات نهائية للمقترحات. لكن يمكن القول إنّ الخطة الحالية ليست شاملة، ومن المفترض أن تُعاد تجزئتها فالمطلوب أمور ثلاثة: أولاً برنامج اقتصادي شامل للاقتصاد ومعه القطاع المصرفي كما والقطاع الخاص. ثانياً، إعادة هيكلة النظام المالي والقيام باصلاحات مالية الدولة. ثالثاً، إعادة هيكلة القطاع المصرفي. لا تعتمد الخطة المسرّبة على موارد لبنان الذاتية، وعليه لا مفرّ من الالتجاء الى صندوق النقد الدولي فهو يوفّر الموارد الماليّة الضرورية. يحتاج لبنان الى ما بين 25 و30 مليار دولار تكون من ضمن خطة استقرار اقتصادي وتأمين السيولة، فإذا أمّن صندوق النقد 7 مليارات، يمكن طلب الباقي من “سيدر” كما ومن الصناديق والمصارف التمويلية الكبرى التي اعتادت مساعدة لبنان وأبرزها مجلس التعاون الخليجي.
تذكر الخطة المسرّبة إعادة هيكلة النظام المصرفي لكن من دون الغوص بأي تفصيل حول كيفية تحقيق ذلك، فما الطرق الواجب اتباعها؟
إقتصرت الحلول المقدّمة في ما خصّ إعادة هيكلة القطاع المصرفي على الـ Haircut والـ Bail In فيما المطلوب إعادة رسملة القطاع عن طريق ضخّ رأسمال جديد من قبل مساهمي المصارف الحاليين. يمكن لإعادة رسملة القطاع أن تتمّ من خلال رسملة الاحتياطات الموجودة لدى المصارف، وبيع الموجودات العقارية المدرجة ضمن ميزانياتها، وإقفال فروعها في الاسواق الخارجية وبيع موجوادتها، وبيع العقارات التي تملكها كبدل استيفاء لديون غير محصّلة. ولا بدّ أيضاً من إعادة تقييم الموجودات العقارية أي الفروع المصرفية والتي كانت غالبيتها بأرقام تاريخية، وإعادة تخمينها بأسعارها الحقيقية، ويمكن بعدها، بالاتفاق مع وزارة المال، إعفاؤها من ضريبة التحسين العقاري لفترة معيّنة، شرط أن يتم استثمار أموال نقدية للرسملة مقابل قيمتها الفعلية.
لا يتحمل المودعون مسؤولية سياسات المصارف، ولا نتيجة انخراطها بتوظيف اموالهم لدى مصرف لبنان أو لتمويل الدين العام. لذا لا بدّ أن ترتبط إعادة هيكلة القطاع المصرفي بخطة شاملة أي رؤية واضحة للاقتصاد المستقبلي ولاتجاهه. يتطلّب إنقاذ القطاع المصرفي ضخّ ما لا يقل عن 25 مليار دولار، وان نجح لبنان بتأمين مساعدات بـ25 ملياراً، عندها يمكن مواجهة الخسائر الفادحة، حتى أن أسعار اليوروبوندز ممكن أن تعود وتتحسّن.
لقد سجّل مصرف لبنان خسائر كبيرة، حددت الخطة الحكومية حجمها بـ43 مليار دولار، الا أنّ الرقم المتوقع أكبر من ذلك بكثير، وذلك بسبب الهندسات المالية منذ الـ2016 والفوائد المرتفعة التي وهبها المركزي الى المصارف ليتحمّل وحده الخسائر. رفع مصرف لبنان معدلات الفائدة على الدولار الأميركي لاجتذاب الودائع عبر القطاع المصرفي من الجاليات اللبنانية في الخارج ومن مستثمرين أجانب، للمساعدة على تمويل العجز المزدوج، أي عجوزات الحسابات الجارية المتواصلة وعجوزات الميزانية. وعمد الى شراء سندات الخزينة الداخلية كما والخارجية، فتكبّد نسب فوائد أعلى من تلك التي حددتها السوق. من هذا المنطلق، لا بدّ لاعادة الهيكلة أن تبدأ مع اعادة النظر بالسياسات النقدية، وتحرير سعر الصرف كما وحوكمة مصرف لبنان.
هل يؤمن قانون النقد والتسليف الأسس المطلوبة لحَوكَمَة مصرف لبنان؟
يعود قانون النقد والتسليف الى العام 1963. تتطلب المرحلتان الراهنة والمقبلة اعادة صياغة قانون جديد في ما يتعلق بحَوكَمة البنك المركزي خصوصاً في ما خصّ إنشاء مجلس للاشراف(supervisory board) للفصل بين الادارة التنفيذية وتلك التي تشرف عليها، وهيئة تدقيق حسابات داخلية-مستقلّة، والاتفاق مع مؤسسة تدقيق دولية، على أن تنشر الموازنة السنوية بعد تقديمها لمجلسي النواب والوزراء. بهذه الطريقة، توضع الضوابط، وتُمنع التجاوزات التي شهدناها خلال الفترة الماضية. للبنوك المركزية في غالبية دول العالم، سلطة تنفيذية وأيضاً سلطة إشرافية، وهو ما يفتقر اليه المركزي اللبناني الذي لا يفصل بين الادارة التنفيذية وتلك التي تصوغ السياسات النقدية. ففي سويسرا على سبيل المثال، البنك المركزي هو شركة مساهمة ذات أسهم مطروحة في السوق ما يمكّن أي شخص من حمل هذه الأسهم وبأعلى معايير الشفافية. وتوضع السياسة النقدية من قبل مجلس ادارة من دون أي تدخل من المساهمين، والامر سيان بالنسبة الى بنك انكلترا.
المادة 88 من قانون النقد والتسليف واضحة كالشمس، وهي تنصّ على أن: يجاز للمصرف ان يمنح الخزينة بطلب من وزير المال تسهيلات صندوق لا يمكن ان تتعدى قيمتها عشرة بالمئة، من متوسط واردات موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الاخيرة المقطوعة حساباتها، ولا يمكن ان تتجاوز مدة هذه التسهيلات الاربعة اشهر.
ذلك يعني أن القانون لم يُجزْ للمركزي إقراض الدولة ولا حتى تمويلها. الا أن القانون لم يُحترم ولا تُراعى أيّ من موادّه، لذا لا بدّ أن يُصاغ قانون جديد يكون أكثر صرامة في حال مخالفة أحكامه على رأسها تلك المتعلقة بتمويل الدولة.
باختصار، لم يضخّ المركزي السيولة عبر شراء السندات بطريقة سليمة للتعاطي مع الاسواق المالية، فاتخذ قرار تحديد الفوائد على هواه. ولو لم يقم بذلك لكنا تجنّبنا الكثير ولكانت قيمة السندات السوقيّة تدنّت ولكانت نسب الفوائد قد ارتفعت، وعليه لكانت الحكومات المتعاقبة اختنقت لتجد نفسها أمام عجوزات متفاقمة ولكانت بالتالي أُرغمت على القيام بالاصلاحات اللازمة. لقد منع المركزي آليّة السوق، فيما تتطلب اعادة الهيكلة العودة الى مبادئ السوق.
سمعنا الكثير من الاقتراحات خلال الاسابيع القليلة الماضية التي تتناول طرق التعويض على المودعين. فكيف يمكن أن يتحقق ذلك برأيك؟
برأيي يجب حماية الودائع بدلاً من التفكير في سبل التعويض على أصحابها. يتحقق ذلك من خلال تمويل خارجيّ واعادة رسملة المصارف وهيكلتها، فإن تحسّنت ميزانياتها، عندها تتحسن قيمة محفظة ديونها ما يشكّل أفضل حماية للمودع، الى جانب قضيّة استرداد الاموال المنهوبة. تقسم مسألة استعادة هذه الاموال الى جزءين داخليّ وخارجيّ. دولياً، يتحتّم على لبنان الانضمام الى مبادرة البنك الدولي والامم المتحدة (UNODC). يهتم البنك الدولي بالتعاون مع الامم المتحدة من خلال مبادرتها لاسترداد الاموال المنهوبة بمساعدة الدول، وقد نجحت دول عديدة في استعادة الاموال المهرّبة نتيجة الفساد. يمكن أن يكون لبنان جزءاً من المبادرة وهو قرار فوري يمكن أن تتخذه الحكومة. داخلياً يتطلب الامر، إن وُجدت النيّة، تحديد ماهيّة الاموال المنهوبة ومصدرها. ويمكن تعيين مدع عام يُعطى صلاحيات استثنائية، يترافق ذلك مع الغاء قانون السرية المصرفية مع تفعيل لجنة مكافحة الفساد، على أن تضم من يزخر بالجرأة والنزاهة. خرجت من لبنان بين عامي 2018 و2019 مبالغ تُقدّر بـ20 مليار دولار. إذا استعاد لبنان جزءاً من هذه الاموال، يمكنه أن يتعافى أسرع من المتوقّع، لا سيما وأن استعادة هذه الاموال لا تتطلب وقتاً ولا سنوات طويلة كما يُشاع. حتى أن الحكومة بوسعها أن تتبع خطى دول عديدة وأن تكلّف شركة دولية لتتبع اموال السياسيين المشكوك بمصادرها، لا سيما أن أوروبا والولايات المتحدة مستعدّتان لمساندة لبنان في هذا المجال.
تختلف إعادة هيكلة المركزي عن المصارف التجارية ماذا تعني إعادة هيكلة مصرف لبنان؟
للغوص في آليّة إعادة تنظيم البنك المركزي، يجب البدء من أهمية التعيينات في حاكميّة مصرف لبنان من دون أي تدخّل سياسي وهو ما لم يحصل. تتزايد أهميّة هذه التعيينات في وقت تراقب فيه الجهات الخارجية الادارة اللبنانية ومدى جدّيتها، في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة عن كثب على مختلف الاصعدة وتحديداً النظام المصرفي، خصوصاً وأنّ اي خطة انقاذية للبنان لا يمكن ان تتحقق من دون استقرار على المستويين النقدي والمالي. ذلك يعني أنّ أيّ تدخّل سياسي سيؤدي حُكماً الى التشكيك في النيّة الاصلاحيّة وبالتالي الى المزيد من قلّة الثقة.
يختلف مصرف لبنان عن البنوك التجارية لناحية رأس المال. بين الاعوام 1948 و1993 كانت السوق الماليّة مرنة؛ آنذاك لم يكن من الضروريّ لمصرف لبنان تخزين احتياطات كبيرة بالعملات الاجنبية، على عكس سياسة تثبيت سعر الصرف. من هنا اعادة الهيكلة مرتبطة بالسياسة النقدية المستقبليّة وعما ان كان سعر الصرف سيُحرّر رسمياً أم لا.
في هذا السياق أنا أقترح ربط سعر الصرف بسلة من العملات ليس فقط الدولار بل وأيضاً اليورو والين وعملات دول الخليج، خصوصاً في وقت يتحسّن فيه الدولار الاميركي بالنسبة الى باقي العملات الاخرى ما من شأنه أن يزيد الضغوطات على لبنان.