رؤساء وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف مسؤولون أيضاً عن أسباب الأزمة وتداعياتها الكارثية

سمحوا بالتمادي في تركيز توظيف موارد المصارف التجارية في ديون القطاع العام، كما لو أنها مصارف للأعمال والتسليف المديد الأجل

أخفقوا في التأكد من وجود وكفاية أو فعالية الأنظمة الإحترازية الخاصة بتقييم الإقراض والمخاطر لا سيما الإنكشاف على الديون السيادية

سمحوا بتجاوز قيود السقف الأعلى لإقراض عميل واحد، وتقاعسوا عن طلب إحالة المصارف المخالفة أمام الهيئة المصرفية العليا

أهملوا تقييم جودة الأصول وكفاية الأموال الخاصة والمخصصات والإحتياطيات ومراكز الملاءة والسيولة وإجراءات التحوّط والتحقق

غضوا الطرف عن إسراف المصارف في خلق الودائع وبالتالي النقود المشتقة (اللولار)، والإنغماس في أنموذج أو مخطط Ponzi Scheem

ضرورة الرجوع إلى محاضر جلسات لجان الرقابة وتقاريرها للوقوف على المواقف واتجاهات التصويت لفرز الأعضاء المسؤولين عن الخطأ

بإمكان المودع مقاضاة الدولة للحصول على تعويض يوازي ما خسره، بفعل تقاعس وانحراف أعضاء لجان الرقابة على المصارف في أعمالهم

بعد اكثر من نصف قرن من صدور القانون رقم 28/67 الذي انتزع الرقابة على المصارف من مصرف لبنان، وكلف لجنة خاصة مستقلة منشأة لديه بالامر من دون ان تكون خاضعة لسلطته. اظهرت الازمة – الكارثة التي حلت باللبنانيين ان الآمآل التي عقدت على اللجنة العتيدة بتحقيق انضباط أسلم في العمل المصرفي لم تكن في محلها وان اعضاء اللجنة يتحملون مسؤولية واضحة في حصول الازمة – الكارثة.

السؤال الذي يطرح ذاته تلقائيا في هذا المضمار: لماذا لم يتنبه اعضاء لجنة الرقابة باكراً الى انحرافات المصارف؟ وهم الاخصائيون الذين يفترض ان انتقاءهم وتعيينهم قد حصل على اساس كفاءتهم العلمية والعملية في الامور المصرفية لمراقبة «حسن تطبيق» المصارف لقواعد النظام المصرفي، وهو امر يدخل في صلب مهامهم حسب المادة 8 من قانون انشاء اللجنة؟ لماذا سمح اعضاء اللجنة للمصارف بالتمادي في تركيز توظيف مواردها في ادوات القطاع العام، كما لو انها من مصارف الاعمال والتسليف المديد الاجل، كما وبتجاوز قيود السقف الاعلى لاقراض عميل واحد؟ ولماذا لم يطالب اعضاء اللجنة المصارف مباشرة او من خلال مصرف لبنان عند الاقتضاء باجراءات وتدابير مناسبة تعالج مسألة مخاطر تركز عملياتها بتمويل قطاع عام فاسد؟ ولماذا تقاعس اعضاء اللجنة اخيراً عن طلب احالة المصارف التي تتمسك بتقصيرها وبمخالفتها للقانون والانظمة والتعليمات وقواعد الاقراض السليم وغيره امام الهيئة المصرفية العليا لاتخاذ القرار المناسب بحقها؟

ان من صلب مهام ومسؤوليات اعضاء لجنة الرقابة على المصارف «وضع برنامج « يحصن اوضاع المصارف، وتضمينه ما تراه مناسباً او ضرورياً من اجراءات التحوط والتحقق والاحتراز.

والسؤال الاولي الذي يثور في ذهن المواطن العادي هو التالي: لماذا تقاعست لجنة الرقابة عما ينص عليه قانون انشائها على وضع هكذا اطار عام لعمل المصارف ينئيها عن المخاطر المحدقة باعمالها، في مقدمها الانكشاف على الديون السيادية بالدولار على الاخص، بعد ان بدأ ميزان المدفوعات تسجيل عجوزات مهمة متلاحقة؟ واستطراداً ما هو بالتحديد اطار المسؤولية الناجمة عن تقصير اعضاء اللجنة بالقيام بالمطلوب منهم؟ ما هي طبيعة الاخطاء التي يعتد بها في تقرير مسؤولياتهم؟ هل هي فقط مسؤولية ادارية ام هي ايضاً مدنية تقصيرية وحتى جزائية؟ من يتحمل تعويض مودعي المصارف عن الاضرار المتأتية عن اخطاء اعضاء اللجنة في التقصير والاهمال في قيامهم بموجباتهم؟

قانون إنشاء لجنة الرقابة على المصارف

تذكرالمادة 8 من القانون 28/67 الذي نص على انشاء اللجنة ان مهمتها هي: التحقق من حسن تطبيق المصارف النظام المصرفي على الاخص المحظورات التي يمتنع عليها اتيانها وموجبات والقواعد العامة التي يتعين عليها الالتزام بها.

ايضاً تحيل المادة 8 المذكورة في البند الخاص بمسؤولية اعضاء اللجنة الى المادتين 19 و20 من قانون النقد والتسليف الخاصتين بمسببات اقالة الحاكم ونوابه. فالمادة 19 تتحدث عن الخطأ، حيث اشارت الى امكانية الاقالة فقط في حال «الخطأ الفادح في تسيير الاعمال»، كما تتحدث عن الاقالة في حال «الاخلال بالوظيفة»، وعن الأثر الجرمي المترتب عليه عند الاقتضاء بمفهوم الفصل الاول من الباب الثالث من قانون العقوبات.

لاحقاً صدر المرسوم الاشتراعي رقم 43/67 الذي نص على معيار متمايز لمسؤولية اعضاء لجنة الرقابة على المصارف، وهو «الاخلال عن قصد او إهمال بالواجبات التي تفرضها القوانين والأنظمة النافذة».

واضافت المادة 2 منه التالي: «اذا رأى حاكم مصرف لبنان أنّ رئيس لجنة الرقابة على المصارف او أحد اعضاء اللجنة قد أخلّ بالموجبات المترتبة عليه، يرفع عندئذ الأمر الى مجلس الوزراء، وعلى الاخير ان يبتّ في مضمون اقتراح حاكم مصرف لبنان خلال مهلة شهر واحد من تاريخ وروده الى رئاسة المجلس. فإذا انقضت المهلة المذكورة دون ان يبتّ مجلس الوزراء في مضمون الاقتراح سلباً ام إيجاباً، يُعتبر اقتراح حاكم مصرف لبنان نافذاً حكماً اعتباراً من تاريخ انقضاء مهلة الشهر».

اما المادة 3 فقد نصت على تنوع وتدرج في العقوبات بين التنبيه واللوم وانهاء الخدمة، وتكون جميع القرارات بهذه العقوبات سرية.

مظاهر القصور في عمل اللجنة

الازمة – الكارثة التي عصفت بالمجتمع اللبناني والنتائج التي افرزتها اظهرت قصورا بيناً في تحقيق لجنة الرقابة على المصارف المطلوب منهما بمقتضى التوجهات الدولية الآنفة الذكر.

اهم مظاهر القصور: اخفاقها بالتاكد من وجود وكفاية او فعالية الانظمة الاحترازية لدى المصارف الخاصة بتقييم سياسات الإقراض والمخاطر، بما فيها مخاطر الانكشاف للدين العام بالدولار ومعدلات فوائده، وايضا عدم كفاية وفعالية سياسات تقييم جودة الأصول وكفاية الاموال الخاصة والمخصصات والاحتياطيات والمراكز، على الاخص مراكز الملاءة والسيولة بالدولار للمدى القصير والمتوسط الاجل. فهذه السيولة كان معدلها العام يتعدى خلال الحرب الاهلية نسبة الـ 90%، واتت الازمة – الكارثة لتكشف الحقيقة المرة انه دون الـ 10% بسبب تركيز المصارف عملياتها في التوظيف باصدارات القطاع العام بالدولار لا سيما مصرف لبنان، بالرغم من الاشارات السلبية المتأتية من تضخم ميزانيته. علما انه، اي مصرف لبنان، مندوب، عملا بالفقرة الاخيرة من المادة الشهيرة 174 نقد وتسليف بـ « تحديد وتعديل قواعد تسيير عمل المصارف حفاظاً على «سيولتها» وملاءتها». لقد استند مصرف لبنان الى الفقرة الاخيرة من المادة المذكورة ليفرض معدلات سيولة تبلغ 100/100 بالنسبة للودائع الدولارية الـ fresh لتطمين اصحابها. والسؤال الذي يحير الاذهان لماذا اذن ترك هذا المعدل يهبط الى ما دون 100/ 10 للودائع القديمة بحيث بات مشاركاً رئيسياً بالتسبب بالازمة – الكارثة ؟!

طبيعة الإلتزام بالرقابة

الخطوة الاولى لاستكشاف ما اذا كان هناك خطأ في اداء اعضاء لجنة الرقابة، وما اذا كان هذا الخطأ في حال ثبوته مرتبطاً او مسؤولا عن الكارثة – الازمة، هي في تحديد طبيعة الالتزام القانوني الملقى على عاتق هؤلاء الاعضاء؟

هل هو من نوع الالتزام بتحقيق نتيجة obligation de résultat وهي عدم حصول اية انتكاسة مصرفية من اي نوع كانت خلال ولايتهم بحيث تثار مسؤوليتهم بمجرد حصول الانتكاسة؟ ام هو من نوع الالتزام ببذل العناية وقصارى الجهد obligation de moyens للحؤول دون حصول اي اختلال مصرفي اثناء ولايتهم، فاذا حصل ينبغي اثبات خطأ اعضاء اللجنة، وتوافر السببية بين الخطأ الحاصل والضرر المتأتي منه، لكي تثار مسؤوليتهم؟

لا شك ان التزام اعضاء لجنة الرقابة ليس من نوع الالتزام بتحقيق نتيجة obligation de résultat، وهو الاستقرار المصرفي في جميع الظروف والاحوال اثناء الولاية، ما خلا القوة القاهرة بالطبع. فهذا امر يصعب وتنأى عنه انجح الهيئات الرقابية المصرفية في العالم، وان كان من الممكن وضع لائحة بافضلها اداء للاقتباس منها. في هذا المضمار تتربع الـ Bafin الالمانية على راس هذه اللائحة. ويعزو الالمان سبب الاستقرار المصرفي المميز نسبياً في بلادهم وصموده بشكل افضل امام الصدمات وآخرها ترددات ازمة 2008 الى (1) طبيعة النظام الذي يفصل بين الشأن النقدي الذي يختص به الـمصرف المركزي الـ BundesBank ومقره في فرانكفورت، وبين الاشراف والرقابة المصرفية وتختص بهما الـ Bafin ومقرها في برلين، في دلالة واضحة على اهمية استقلالية كلا المؤسستين الواحدة عن الاخرى في تحقيق الاستقرارين النقدي والمصرفي معاً (وهو امر غير قائم في لبنان)، و(2) كون النظام يقوم على ثلاث ركائز اثبتت فعالية مميزة في امتصاص الضغوطات والازمات. والركائز الثلاث هي المصارف التجارية الخاصة ومصارف المقاطعات landesbanken، صناديق التوفير caisses d epargne والمصارف التعاونية banques cooperatives. انموذج يمكن للعاملين على مشروع قانون اعادة هيكلة المصارف في لبنان التفكير بالاقتباس منه، لتوفير صمام امان ثبت نجاحه عملياً امام الازمات لحماية شرائح واسعة من المودعين على الاخص المنضوين في نقابات وتجمعات اهلية ومهنية.

اذن طبيعة الالتزام الملقى على عاتق اعضاء لجنة الرقابة على المصارف هي التزام ببذل العناية وقصارى الجهد obligation de moyens في التحقق بقيام المصارف بجميع مقتضيات الاستقرار المصرفي من خلال حسن تطبيقها للقانون والانظمة والتعاميم ذات الصلة وايضا قواعد ومعايير لجنة بال.

مضمون الخطأ في الرقابة

مضمون الخطأ الذي يسأل عنه اعضاء لجنة الرقابة هو عدم تقيدهم وتقصيرهم بموجب التحقق المكلفين به في ما خص نشاط وعمليات المصارف، واتخاذ المقتضى المناسب بنتيجته. وهو خطأ يماثل بطبيعته خطأ اي أخصائي في المضمار الذي يعمل فيه، ما يعني ان تكون المساءلة، من حيث المبدأ، عن ارتكاب الخطأ البسيط. وهذا ما يفضي به منطق الامور من منطلق المهنية العالية المفترضة لدى الاخصائي. بيد ان هذه الخلاصة تخالف ما ينص عليه قانون لجنة الرقابة الذي يتحدث عن مسؤولية اعضائها فقط في حال «الخطا الفادح» او «الاخلال عن قصد واهمال» بالموجبات. وهو توجه يلاقي ما اعتمدته القوانين وقرارات القضاء الاوروبية السابق ذكرها اعلاه ومبرراتها في ان اعتماد معيار الخطأ الجسيم يحقق استقراراً مصرفياً ومالياً اكثر من اعتماد معيار الخطأ البسيط.

إثبات الخطأ في الرقابة

معروف ان الاثبات على من ادعى حسب المفكر الفرنسي Rousseau والمنطق القانوني اللاتيني la preuve incombe a celui qui affirme. لكن واقع الامورعلى خلاف ذلك في الانتكاسات المصرفية، اذ يأخذ المتهمون في الاخيرة المبادرة بإثبات عدم خطئهم، او ايضاً بحصول أمر طارئ حال دون قيامهم بالمطلوب منهم. ومن الضروري هنا الرجوع الى محاضر جلسات لجان الرقابة وتقاريرها للوقوف على المواقف وعلى اتجاهات التصويت في الاجتماعات، كما التحفظات لفرز الاعضاء المسؤولين عن الخطأ.

نتجت الفجوة (التي تزيد على 70 مليار دولار) من انكشاف المصارف على الديون السيادية بالدولار وتحولها الى نشاط مصارف الاعمال والتسليف المديد الاجل، وتجاوزها قواعد الاقراض لعميل واحد، واسرافها في خلق الودائع وبالتالي النقود المشتقة (اللولار) من غير رادع ورقابة رقيب.

لجنة تتشكل بالتحاصص… وفيها مصرفيون!

البعض يعزو سبب تقاعس لجنة الرقابة في وضع يدها على المخاطر الانفة الذكر الى تركيبة اللجنة ذاتها. فقد منحت جمعية المصارف حق اقتراح وتسمية احد اعضاء اللجنة. فبات المُراقَب صاحب صلاحية في تعيين من سيراقبه. فوق ذلك يشير استعراض اسماء لجان الرقابة الى ان انتقاءهم كان على الدوام تقريباً من عاملين لدى المصارف تمت تسميتهم وتعيينهم ضمن آلية محاصصة تتحكم فيها المنظومة السياسية التي تغذت لعقود من موارد المصارف لتمويل فساد الدولة التي تقبض عليها. ولم يكن بامكان اعضاء لجان الرقابة الاعتراض على هذا التوجه واظهار استقلالية وظيفية مناوئة له وللمستفيدين منه الذين اتوا بهم الى السلطة.

تصريحات لرئيسين من رؤساء اللجنة

من صور استكانة لجان الرقابة على المصارف للتوجه المحكي عنه ما صرح به احد رؤسائها في ندوة متخصصة، اذ قال حرفياً التالي «ان هناك ضوابط لاقراض القطاع العام موضوعة من المصارف والدولة ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف تدفع المودعين الى النوم بارتياح»، تطمينات اثبتت الايام خواءها وعدم سلامتها.

ايضاً وبصراحة جد متناهية ذكر رئيس آخر للجنة في مقابلة صحافية «بانه، هو والحاكم، كانا يعلمان ان الانموذج المعتمد سينهار، وقد تم اعلام الرؤساء الثلاثة بالامر، ولم يكن هناك من حيلة سوى اعادة احياء الانموذج والاستمرار به باستعمال موجودات المصارف لدى مراسليها في الخارج، فهذه لو أبقيت مع المصارف لكانت الاخيرة عربدت ومنحت الأموال لمن تريد، وغدا المصرف المركزي بلا دولارات، وسقطنا في أزمة مصرفيّة وأزمة عدم سداد عن الدولة بالعملة الأجنبية. ان اي دقّ لناقوس الخطر كان يعني التسبّب بانهيار كبير من المعيب أن نكون سببه. نعم كان الأمر واضحاً»، وختم بالاقرار «بضرورة وقف الهريان الناتج من نفخ الكتلة النقدية بالعملة الأجنبية التي لا يتقابلها موجوادت خارجية»…انحراف خطير كشفت عنه الازمة – الكارثة الراهنة كما كشفت عن تقاعس مريب في معالجته من قبل الجميع.

التعويض عن الخطأ في الرقابة من حيث المبدأ يمكن لأي شخص يقع ضحية ضرر نشأ عن عمل الإدارة العامة أن يحصل سنداً لاحكام المادتين 60 و61 من نظام مجلس شورى الدولة على تعويض يقرر مقداره الاخير. وهذا معمول به في كافة مجالات النشاط الإداري بما فيه نشاط التنظيم والاشراف والرقابة على المصارف.

وعلى هذا بامكان اي مودع متضرر مقاضاة الدولة للحصول على تعويض يوازي ما خسره من وديعته، بفعل تقاعس وانحراف اعضاء لجان الرقابة على المصارف في اعمالهم. وهذا ما قرره مجلس الدولة الفرنسي في قراره السابقة الاشارة اليه اعلاه رقم 219562 تاريخ 30 تشرين الثاني 2001 من تعويض للمودعين بسبب اخطاء ارتكبتها اللجنة المصرفية commission bancaire

قد يقال ان التعويض يتحمله مصرف لبنان باعتبار ان لجنة الرقابة منشأة لديه وهو، اي مصرف لبنان، معتبر من قبيل السلطة العامة التي تتمتع بالشخصية المعنوية المستقلة مالياً حسب المادة 13 من قانون النقد والتسليف. وقانون لجنة الرقابة، ينص على دفع مصرف لبنان نفقاتها حصرياً. لكن من المفيد التذكير بان المادة 113 من قانون النقد والتسليف تذكر صراحة ان خسارات مصرف لبنان تتحملها الدولة بالنهاية.

ويمكن تصور رجوع الاخيرة، اي الدولة، في ما دفعته من تعويض للمودعين المتضررين، من اصحاب الودائع النظيفة بالطبع، الى اعضاء لجان الرقابة المقصرين، وحتى ايضاً الى افراد معينين من الطاقم الاداري لهذه اللجان ولو بعد انتهاء مدة الولاية والعمل، في حال ثبوت دور اساسي لهم في حصول الخطأ في الرقابة.

اخيراً بإمكان المودع، ودائما صاحب المال النظيف، وعملا بالمبادئ العامة التي تحكم المسؤولية المدنية، أن يختار مقاضاة المخطئين من اعضاء لجان الرقابة على المصارف واداريي هذه اللجنة شخصياً امام المحاكم العادية، للحصول على التعويض عن الضرر الذي اصابه من اخطائهم او تقاعسهم عن اتخاذ الاجراءات والتدابير المطلوبة ما تسبب باندلاع الازمة – الكارثة، لكن لا يجوز السعي وراء تعويضين عن ذات الخطأ.

التشابك في المسؤوليات مع مصرف لبنان

اثارة مسؤولية اعضاء لجنة الرقابة على المصارف لا بد وان تستتبع في مرحلة معينة اثارة مسؤولية مصرف لبنان ايضاً للتشابك القائم في القوانين، ما يمكن ان يمهد للتفلت من جزاءات الانحرافات والارتكابات بتفسيرات معينة لهذا التشابك.

فاستنادا للمادة 9 من قانون اللجنة رقم 28/67 تتولى الاخيرة الرقابة الاحترازية الجزئية اي الـ microprudentielle مع «حق وضع برنامج لتحسين اوضاع اي مصرف وتوصيته التقيد به». اما مصرف لبنان فهو مندوب لاجراء التحليلات الاحترازية الكلية والقيام بالمهام المنصوص عليها في المادة 174 نقد وتسليف، ومنها وضع قواعد العمل و»اعطاء التوصيات لتسيير عمل مصرفي سليم والتي يمكن ان تكون شاملة او فردية».

ما يستخلص ان الاثنين اي لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان مكلفان بذات المهمة وهي «وضع البرنامج» من قبل الاولى و»اصدار التوصية» من قبل الثاني، لضبط تقيد المصارف او اي مصرف بقواعد السلامة المصرفية، والنتيجة عدم امكانية اثارة مسؤولية اعضاء لجنة الرقابة على المصارف في الازمة – الكارثة دون ربط الامور بمسؤولية مصرف لبنان ايضاً. احدى صور التشابك في المسؤولية استنسابية، من خارج اطار القانون، في موضوع احالة المصارف المخالفة امام الهيئة المصرفية العليا بعد تقارير اللجنة بالمخالفات المرتكبة.

ايضا عمد المشرع وبعد شهرين فقط من انشاء لجنة الرقابة على المصارف الى تعديل المادتين 187 و 188 قانون النقد والتسليف حيث طالب في الاخيرة مفوضي المراقبة بـ»ان يرسلوا مباشرة وفي آن واحد الى الحاكم ورئيس لجنة الرقابة على المصارف نسخاً عن التقارير التي يعدونها بنتيجة اعمال الرقابة التي قاموا بها»، ما يعني ان الاول اي الحاكم ما زال معنياً بالرقابة الجزئية. ومعلوم ان تقارير مفوضي المراقبة هي اشمل واعمق بكثير من تقارير مراقبي اللجنة. اذ تتعدى، حسب قرارات القضاء الفرنسي، تدقيق الحسابات وضبط المخالفات الى مراقبة «ملاءمة» العمليات والقرارات المتخذة لمصالح الشركة حتى ولو كانت هذه القرارات مستوفية الشكل القانوني. والسؤال الذي يطرح ذاته عندها من هو المسؤول المباشر والفعلي في حال التقصير باتخاذ ما يقتضي اتخاذه من تدابير في حال تضمن تقارير مفوضي المراقبة مخالفات تمس بسلامة العمل المصرفي؟ هل هو رئيس اللجنة ومن ورائه سائر اعضاء اللجنة؟ ام هو الحاكم ومن ورائه مصرف لبنان واجهزته المعنية؟ ام الاثنان معاً ؟

(*) أستاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية

التوجهات المقارنة قانوناً وقضاءً في مسؤوليات لجان الرقابة المصرفية

فرنسا: قضى مجلس الدولة الفرنسي في قراره رقم 219562 تاريخ 30 تشرين الثاني 2001 في قضية البنك السعودي اللبناني، بان مسؤولية الدولة عن الاضرار التي سببها اهمال وتقاعس اللجنة المصرفية Commission bancaire في ممارسة مهامها الرقابية لا تثار الا في حال «الخطأ الجسيم «. لان هذا الامر يعزز الثقة بالنظام المصرفي والمالي. والقبول بـ «الخطأ البسيط» من شأنه ان يعرقل اعمال الرقابة. وهذا التوجه في تقرير المساءلة يوفر حلاً عادلاً ومتوازناً بين متطلبات الرقابة الفعالة وهامش المناورة لصالح المودعين والغير، بدون التعريض للخطر المال العام واستقرار النظام المصرفي. وقد تم على هذا الاساس دفع الدولة للتعويضات المستحقة للمودعين الذين اثاروا مسؤولية تقصير اللجنة المصرفية للرقابة، واهمها عدم انتباهها الى ان تحقيق قسم من زيادة رأس مال المصرف قد تمت من اموال سبق لاحد كبار المساهمين ان اقترضها من المصرف.

اللوكسمبورغ وبلجيكا: في اللوكسمبورغ تنص المادة 1 من القانون الصادر في1 ايلول 1988 الخاص بمسؤولية الدولة ان الاخيرة واشخاص القانون العام مسؤولون، كل في إطار مهمته بتحقيق المصلحة العامة، عن أي ضرر ناتج عن اي تقصير او اهمال او خلل بمعرض أدائهم لخدماتهم الإدارية والقضائية.

ايضاً ينص قانون «لجنة الاشراف على القطاع المالي الصادر في 23 كانون الاول 1998 في المادة 20 منه ان اللجنة «لا ترمي الى ضمان المصالح الفردية للمؤسسات التي تخضع لرقابتها او عملاء هذه المؤسسات او الغير لكن حصريا المنفعة العامة».

غير ان هذا لا يمنع من ان تثار مسؤولية اللجنة عن الضرر الذي قد تتعرض له المؤسسات السابقة او عملائها أو الغير. وعندها يجب إثبات أن الضرر ناتج عن إهمال جسيم في اختيار اللجنة، وتطبيقها الوسائل الموضوعة بتصرفها من أجل تحقيق المصلحة العامة. ويسري ما سبق على مسؤولية اعضاء اللجنة وموظفيها ايضاً عندما يضطلع هؤلاء بمهمة تخص الصالح العام من خلال تمثيل «اللجنة» لدى منظمات او هيئات او لجان أو سلطات أو وكالات مستقلة.

من جهة اخرى اشارت المحكمة الدستورية في اللوكسمبورغ في حكمها الصادر في 1 نيسان 2011 في القضية 00063 الى ان الاعتداد بـ «الخطأ البسيط» لترتيب مسؤولية الدولة في شأن الرقابة المصرفية والمالية من شأنه ان يعكس خطراً مالياً غير محدود. من هنا فان الخطأ الواجب الاعتداد به هو «الخطأ الجسيم» وليس «الخطأ العادي او البسيط» لترتيب المسؤولية. وبالتالي يقتضي تجاوز مسألة المساواة امام القانون للحفاظ على الاستقرار في النظام المالي.

كذلك ينص القانون في بلجيكا على المسؤولية المدنية للجنة المصرفية عن الاضرار المادية التي قد تلحق بعملاء المؤسسات الخاضعة لرقابتها او بالغير، شرط اثبات ان الضرر كان سببه اهمال جسيم في اختيار او تطبيق وسائل معتمدة في أداء مهمة الرقابة.

سويسرا: ينص قانون الـ FINMA الهيئة المسؤولة عن تنظيم ورقابة النشاط المصرفي والمالي بصورة عامة على مسؤوليتها واعضائها وافرادها والاشخاص المفوضين من قبلها في حال «خرقهم وعدم تقيدهم بواجبات الوظيفة الاساسية».

اما قانون مسؤولية الاتحاد السويسري الذي يحيل اليه قانون الـ FINMA فينص على ان الاتحاد السويسري مسؤول عن الأضرار التي يسببها الموظف العام من دون حق لطرف ثالث أثناء تأديته لواجباته، بغض النظر عن طبيعة خطأ الموظف. ولا يكون للمتضرر دعوى ضد المسؤول المعني بل ضد الاتحاد، وللاخير الرجوع الى الموظف حتى بعد انتهاء خدماته. ويكون الموظف العام مسؤولاً أمام الاتحاد عن الضرر الذي تسبب فيه بشكل مباشر بمخالفة واجبات الخدمة عن قصد أو من خلال الإهمال الجسيم. وعندما يتسبب بالضرر العديد من الموظفين فإنهم يساءلون جميعهم أمام الاتحاد كل واحد بمقدار ونسبة الخطأ الذي ارتكبه.

لجنة بازل: وضعت «اتفاقية بال» وتعديلاتها كما ولجنة بال للرقابة المصرفية «مبادئ اساسية لرقابة مصرفية فعالة»، ضمنتها ما يتعين على ادارات المصارف اتيانه، وايضا ما يتعين على الجهات الرقابية المصرفية الوطنية إعماله في رقابتها على عمليات المصارف بهدف تحقيق الاستقرار المالي الوطني والدولي ايضاً.

ارتكبوا خطأً قاتلاً.. باعتماد أنموذج Ponzi Scheem

الرأي الراجح لدى عموم اللبنانيين ان الازمة – الكارثة التي سقط فيها بلدهم حصلت بسبب خطأ قاتل ارتكبته اساساً ادارات المصارف والهيئات الناظمة والمراقبة لنشاطها. وافضل من عبّر تقنياً عن هذا الخطأ القاتل هو الرئيس الفرنسي Emmanuel Macron وهو المتمرس بامور المال والمصارف، اذ ذكر ان الازمة – الكارثة في لبنان مردها الى اعتماد انموذج Ponzi Scheem.

هذا الانموذج بنكهته اللبنانية صحيح انه أمّن لمدة معينة تمويل احتياجات القطاع العام وايضاً فساده بشكل مخالف للقانون، الا انه لم يخرج عن قاعدته الاساسية التي يقوم عليها وهي استقطاب التوظيفات على الاخص موارد المصارف من اموال المودعين بالدولار بمعدلات فائدة متصاعدة، لتأمين الحصول المستمر على التوظيفات الجديدة، فيسدد منها المستحق من التوظيفات السابقة على نحو استمر فيه بالون الانموذج بالانتفاخ حتى وصوله لنقطة تعذر فيها الاستمرار بآليته، فكان الانفجار المدوي وهذا ما حصل في لبنان.

اشهر اسم معاصر أوقع الناس بفخ انموذج Ponzi Scheem هو الوسيط المالي Bernard Madoff وقد انهار انموذجه عشية انفجار ازمة الرهونات العقارية الاميركية عام 2008، وكشف الانهيار عن فجوة مالية ضخمة في حساباته بين موجوداته واستحقاقات الآخرين عليه بلغت حوالى الـ 50 مليار دولار، فأحيل الى القضاء وحكم عليه بالسجن لمدة 150 عاماً.

فجوة انموذج الـ Ponzi Scheem اللبناني تفوق قيمتها مقدار الفجوة السابقة، فهي تبلغ الـ 70 مليار دولار حسب خطة التعافي المالي لحكومة الرئيس ميقاتي والبعض يقول انها اكثر من ذلك، وقد تكونت تدريجياً خلال سنوات استغرقت اكثر من ولاية لجنة رقابة واحدة.

مصدرنداء الوطن - توفيق شمبور
المادة السابقةالأزمة مستمرة… ولا اتفاق مع صندوق النقد في 2023
المقالة القادمةلقوة الصين حدود… مقابل تفوق أميركي دينامي