تبدأ رحلة الموازنة اعتباراً من اليوم، ولكن من دون أن يتوضّح الحد الزمني الذي سيستغرقه النقاش فيها داخل مجلس الوزراء قبل إحالتها الى مجلس النواب، خصوصاً انّ المؤشرات التي تحيط بالمشروع الذي ستتناوله الحكومة في جلستها المقررة ظهراً في القصر الجمهوري في بعبدا، تعكس جواً خلافياً كبيراً حول مضمونها، وشَدّ حبال عنيفاً حول الاقتطاعات التي شملت بعض القطاعات، والمنحى التخفيضي للرواتب والتقديمات في بعض القطاعات الوظيفية المدنية وغير المدنية، ما يعزّز الاعتقاد السائد بأنّ عبور الموازنة مجلس الوزراء دونه اعتراضات وألغام وتباين حاد في الرأي حول كيفية الوصول الى موازنة متوازنة بأرقام تخفّض العجز الحاصل فيها، والذي يهدد تفاقمه بسلوك الوضع الاقتصادي المنحى الانحداري الصعب.
عطلة الفصح لدى الطوائف المسيحية التي تعتمد التقويم الشرقي، نَحّت السياسة جانباً على مدى الايام الاخيرة، ورجالها انصرفوا، بمناكفاتهم واختلافاتهم كل منهم الى إجازته الخاصة، من دون ان يبرز على سطح المشهد السياسي أي تحرّك يذكر، ما خلا الموقف الذي أطلقه رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط بأنّ مزارع شبعا ليست لبنانية، مستفزّاً بذلك «حزب الله» وحلفاءه، ودافعاً رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى الرد المباشر على هذا الموضوع والتأكيد على انّ المزارع هي ارض لبنانية، وعلى حق لبنان بتحرير هذه الارض بالمقاومة وغير المقاومة».
وفي السياق ذاته جاء موقف وزير الخارجية جبران باسيل، الذي أكد فيه انّ «مزارع شبعا هي أرض لبنانية، وصقوقها لبنانية»، معلناً في تصريح امس «اننا سنقوم بكل ما يلزم من أجل استعادتها من اسرائيل التي تحتلّها»، مشدداً في الوقت ذاته على «انّ من واجبنا أن نرسّم الحدود بين لبنان وسوريا، وبخاصة على الحدود في منطقة مزارع شبعا».
وعلمت «الجمهورية» انّ اتصالات أجراها مسؤولون سياسيون بجنبلاط، تبلّغ خلالها اعتراضاً صريحاً على ما وصفوه بالموقف الخطير، وتمّ تذكيره بالاجماع الذي حصل في حوار آذار 2006 في مجلس النواب حول لبنانية مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والتأكيد على استعادتها بشتى الوسائل، وتمّ توقيع الاتفاق الذي تَوصّل اليه جميع أطراف الحوار آنذاك بمَن فيهم جنبلاط. وكذلك ذكّر المسؤولون بمضمون البيانات الوزارية للحكومات التي تؤكد هذا الامر، وآخرها البيان الوزاري للحكومة الحالية الممثّل فيها جنبلاط بوزيرين. وبحسب المعلومات، فإنّ هؤلاء المسؤولين طالبوا جنبلاط بالتراجع عن موقفه «لأنه موقف لا يخدم الموقف اللبناني». وأشارت المعلومات الى انّ هؤلاء المسؤولين لمسوا تجاوباً من قبل رئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي». وفي هذا السياق، لم تستبعد مصادر وزارية أن يأتي رئيس الجمهورية على هذا الموضوع في الكلمة الافتتاحية التي سيلقيها في مستهلّ جلسة مجلس الوزراء اليوم
إرباك
عشيّة جلسة الموازنة، أعدّت القوى السياسية عدتها لخوض هذا الاستحقاق في مجلس الوزراء. فرئيس الجمهورية أعدّ ملاحظاته، ورئيس مجلس النواب نبيه بري يستبشر خيراً مع وضع الموازنة على سكة الاحالة الى مجلس النواب، ورئيس الحكومة سعد الحريري يملك تصوراً لخفض العجز ويتوخّى التغطية السياسية له من كل الاطراف، ووزير المال علي حسن خليل حضّر نفسه للعرض الذي سيقدمه في مجلس الوزراء حول الموازنة وتخفيضاتها التي أنزلت العجز من 11,5% الى 8,8%، وأمّا «حزب الله» فأنهى بدوره ما يمكن تسميتها «لائحة الموافقات والاعتراضات». ويأتي ذلك في وقت تجتاح البلد موجة من الارباك على كل المستويات الوظيفية حيال الغموض الذي يسود الارقام الحقيقية للموازنة، وتساؤلات حول القطاعات التي ستشملها التخفيضات في الرواتب والتقديمات، والنسب التي سيتم اقتطاعها، فيما يتردد عن تحركات سيقوم بها بعض المتقاعدين، وخصوصاً في السلك العسكري رفضاً لخفض رواتبهم التقاعدية.
عون
وإذ توقعت مصادر وزارية أن يُصار الى قراءة أولية لمشروع الموازنة، وجوجلة الافكار الوزارية التي ستطرح عليها على أن يُصار بعدها الى تحديد سلسلة جلسات مخصصة للموازنة للبحث في موازنة كل وزارة على حدة اعتباراً من الخميس المقبل، قالت مصادر واسعة الاطلاع لـ«الجمهورية» انّ رئيس الجمهورية سيفتتح جلسة اليوم بكلمة يتحدث فيها عن الظروف التي تفرض الإسراع بالبَت بالموازنة، ليس تلبية لالتزامات لبنان الدولية وأمام الجهات الدولية والمؤسسات المانحة فحسب بل لمصلحة لبنان وانتظام عمل المؤسسات وتنظيم حسابات المالية العامة.
وأشارت المصادر الى انّ رئيس الجمهورية الذي ينظر الى مشروع الموازنة من زوايا مختلفة لم يتناولها أحد بعد، سيطرح مجموعة من الملاحظات تتناول جوانب عديدة في مشروع الموازنة. وقالت انّ الرئيس سيؤشّر الى أبواب عديدة تمّ تجاهلها في المشروع، ويمكن ان تكوّن مورداً لمزيد من الأموال. كما انّ ملاحظات تتناول بعض المؤسسات التي يمكن أن تطالها الإصلاحات المطلوبة وان من بينها ما لم يقم بالمهام المنوطة به، ويمكن اعادة النظر بما هو مطروح بشأنها، كما انّ بعضاً منها يستحق العناية بطريقة أفضل. وهو يرفض المَس بكل ما يتصل بمخصصات ورواتب العسكريين والمتقاعدين وذوي الدخل المحدود والمتوسّط من المدنيين، معتبراً انّ هناك خطوات يمكن اتخاذها وتؤدي الغرض المطلوب قبل المَس بهذه الشريحة من الموظفين. وقال مقربون من عون لـ«الجمهورية»: انّ الرئيس يرفض ان تفرض على لبنان واللبنانيين «موازنة أمر الواقع»، إذ ينبغي ان تكون الموازنة تقشّفية مرفقة برؤية اقتصادية حقيقية تؤسس لاستعادة التوازن المالي وتوقف الهدر وتعالج كل تراكمات المراحل السابقة، وتحقق العدالة ولا تستهدف قطاعات وتستثني قطاعات أخرى».
بري
وأعرب الرئيس بري عن ارتياحه لانطلاق مسيرة الموازنة على طاولة مجلس الوزراء، آملاً في ان تنتهي منها الحكومة بأسرع وقت وتحيلها الى مجلس النواب للشروع في دراستها وإقرارها في أقرب وقت.
وقال بري لـ»الجمهورية»: مشروع الموازنة المطروح لا هو قرآن ولا هو إنجيل، فإن صدّق كما هو فهذا امر جيّد، لأن هذه الموازنة تخفّض العجز الى 8,8%، وإن تطلّب الامر وضع تعديلات عليها نحو الأحسن فليكن. وبالتالي، مشروع الموازنة كما تم إعداده، أعتقد انه جيد ويخدم البلد وأنزل العجز من 11,5% الى ما دون 9%، ومن لديه اي مقترحات لتعديله يمكن ان يطرحها في مجلس الوزراء وايضاً في مجلس النواب.
ورداً على سؤال عما يحصل إن لم يستفد لبنان من مؤتمر «سيدر»؟ قال بري: عندما نستطيع أن ننجز موازنة تخفّض العجز، ساعتئذ لا يعود يهمني اي شيء. فالموازنة توقف الانحدار وتأخذ البلد في اتجاه آخر. صحيح انّ «سيدر» من شأنه أن ينعش الاقتصاد وينمّيه ويخلق حركة اقتصادية، إنما المهم قبل ذلك هو الموازنة.
وحول موجبات طرح القانون الانتخابي في هذه الفترة، قال بري: كثيرون استغربوا مبادرتي الى الحديث عن هذا الموضوع من الآن، وقالوا ما قالوه، فليقولوا ما يشاؤون، أنا متمسّك بهذا الطرح وبضرورة بدء الحديث في الموضوع الانتخابي، فأنا شخصياً اعتبر انّ هناك أمرين ينقذان البلد: الأول هو الموازنة، وها هي تسلك طريقها الى الاقرار بالشكل الذي يخفّض العجز المَشكو منه. والثاني هو قانون الانتخابات.
وحول الفائض في الموظفين الموجودين في بعض الادارات والمؤسسات، قال بري: الأساس هو وقف التوظيف، وثانياً يجب ان يَنصَبّ الجهد لكي يتم توزيع هؤلاء على المؤسسات والادارات التي تعاني الشغور والفراغات في الوظائف، وأن تجرى لهم دورات تدريبية. وبالتالي، بدل أن يبقوا عالة على الادارة فإنهم يصبحون طاقة منتجة.
الحريري
وكشفت مصادر قريبة من رئيس الحكومة لـ«الجمهورية» أنه يملك صورة متكاملة، أمكَن الوصول اليها بعد المشاورات التي أجراها مع القوى السياسية، وسيطرحها في مجلس الوزراء. مع التأكيد على انّ تخفيض العجز يوجب اتخاذ خطوات جريئة حتى ولو كانت غير شعبية.
«حزب الله»
وعلمت «الجمهورية» انّ «حزب الله» أعدّ ورقته حول الموازنة، وَضمّنها مجموعة لاءات، خلاصتها: «لا قبول بأيّ ضرائب مباشرة او غير مباشرة. لا قبول بأيّ تخفيض للرواتب والاجور، وخصوصاً لأصحاب الرواتب المتدنية. لا قبول برفع الضريبة على القيمة المضافة. لا قبول برفع سعر صفيحة البنزين… ومع زيادة الضريبة على أرباح المصارف. وبحسب المعلومات، فإنّ الحزب يعدّ ورقة بتخفيضات وإلغاءات تطال النفقات غير الضرورية توفّر على الخزينة مئات المليارات.
خبراء
الى ذلك، وبمعزل عن أرقام الموازنة، أكد خبراء اقتصاديون لـ«االجمهورية» انّ إنقاذ الوضع المالي ما زال ممكناً، وتخفيض العجز الى ما دون 9% من الناتج المحلي هو أمر إيجابي، فمن شأن ذلك ان يؤدي الى تفادي الانهيار وتعزيز ثقة المجتمع الدولي بلبنان. الّا انّ المطلوب هو اتخاذ إجراءات مدروسة سواء حول الزيادات او التخفيضات، لئلّا تأتي نتائجها وارتداداتها سلبية على الناس وعلى الاقتصاد.