دخل لبنان في مرحلة عدم سداد ديونه. اليوم يعلن رئيس الحكومة بوجه متجهّم أسف الحكومة اللبنانية لعدم قدرتها على تسديد التزاماتها. ومنذ الأسبوع المقبل تبدأ سلسلة الإجراءات التي تشمل التفاوض مع الدائنين من جهة وبدء هؤلاء برفع الدعاوى على لبنان من جهة أخرى. المسار طويل ومعقّد، قضائياً وتفاوضياً، لكنه صار محكوماً بإعادة الهيكلة
منذ اليوم تبدأ مرحلة جديدة، لم يسبق أن عايشها لبنان. إعلان عدم دفع سندات اليوروبوندز غداً سيعطي إشارة الانطلاق للدائنين ليتحركوا. أول الغيث، أن عدم سداد استحقاق 9 آذار، سيعني استحقاق كل الإصدارات اللاحقة له والتي يبلغ عددها 27 إصداراً. لكن ذلك لن يكون تلقائياً، على أن لـ 25 في المئة من حملة الدين في كل إصدار أن يطلبوا تفعيل آلية السداد بشكل واضح من الدولة اللبنانية. ذلك يبقى سهلاً، وبالتالي يتوقع أن لا يتأخر الوقت قبل أن تكون كل الإصدارات مستحقّة. هذا الإجراء لا يعني حملة سندات إصدار 9 آذار، هؤلاء سيكون بإمكانهم بدء إجراءات التقاضي بعد سبعة أيام (فترة السماح لدفع أصل الدين هي 7 أيام وللفوائد 30 يوماً).
بالرغم من أن الحكومة ستطلب في المقابل التفاوض، إلا أن بدء المفاوضات مع الدائنين لن يمنع هؤلاء من رفع الدعاوى ضد الدولة بشكل متواز. صحيح أنه سيكون بإمكانهم رفع الدعاوى في أي مكان، إلا أنه يرجّح أن تكون الوجهة محاكم نيويورك، علماً أن الدولة تنازلت في عقود اليوروبوند عن سيادتها القانونية، وسمحت بالاحتكام إلى محاكم أجنبية، بما فيها المحاكم الأميركية. تلك المرحلة تحتاج إلى وقت طويل، نسبياً يمتد ما بين 6 و8 أشهر، حتى يصدر الحكم. هامش الحركة لدى الدولة اللبنانية، هو في هذه المرحلة، بحسب خبير قانوني، إذ أنه بالتوازي مع سير المحاكمات، يُفترض أن تسير المفاوضات مع الدائنين. المشكلة أن الدولة لا تملك ما تقدمه لهم في هذه الفترة. وهنا تحديداً قد تتقاطع مصالح الدائنين مع نسبة كبيرة من المسؤولين – المصرفيين أو المستفيدين من المصارف. الطرفان يسعيان إلى تسليم الملف إلى صندوق النقد الدولي. الدائنون لن يكتفوا بالتزامات تقدمها الحكومة، ويحتاجون بالتالي إلى ضمانة دولية لأي اتفاق، فيما بعض السياسيين يستميت لتسليم الدفة لبرنامج صندوق النقد، سعياً وراء حماية طبقة الواحد في المئة التي راكمت الثروات على مدى 30 عاماً من أي إجراءات تطاولها. فالصندوق لا يميز في إجراءاته بين غني وفقير، وبين مستفيد من السياسات النقدية التي كانت متّبعة وبين متضرر منها.
بالنتيجة، إذا تم الاتفاق مع اللجنة الممثلة للدائنين في كل استحقاق (25 في المئة) على آلية لإعادة الهيكلة، يُعرض الاتفاق على تصويت الدائنين، فإذا نال نسبة الـ75 في المئة الدائنين المشاركين في الإصدار، يثبت الاتفاق.
لكن إلى ذلك التاريخ، لا شيء يمنع من عقد اتفاقات مستقلة مع الدائنين المحليين أو مع مصرف لبنان، حتى لو لم يتم الاتفاق مع الدائنين الخارجيين وأكملوا مسار الدعاوى الفردية أو الجماعية. أما في حال الوصول إلى اتفاق يصادق عليه 75 في المئة من الدائنين، فيكون بالإمكان تغيير شروط الإصدار، كتخفيض فائدته وتعديل آجاله، فهو سيسري حكماً على كل الدائنين، حتى أولئك الذين رفعوا الدعاوى أو الرافضين لبنود الاتفاق.
اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية تمنع الحجز على السفارات
مع صدور الحكم في محاكم نيويورك، يتوقع الدائنون أن يكون الحكم لصالحهم، خاصة أن العقود الموقّعة من الدولة اللبنانية كانت تعطي الأفضلية لهم. صدور الأحكام ضد الدولة، لن يغيّر جدياً في الوضع. بطبيعة الحال، يُفترض أن تبلّغ الحكومة بها لتنفيذها. عدم التنفيذ، يعني الانتقال إلى مرحلة الحجز على أملاك الدولة في الخارج. لن يتردد الدائنون في محاولة الربط بين المصرف المركزي والدولة، إلا أنه حتى الآن يُتوقع أن لا يكون ذلك سهلاً. ما يعني أن طائرات «طيران الشرق الأوسط» واحتياطي الذهب، إضافة إلى كل ما يملك المصرف المركزي باسمه من أملاك ومؤسسات ستكون بمنأى عن المصادرة. وكل ذلك مرتبط أساساً بالفلسفة القانونية المعتمدة في محاكم نيويورك ولندن، التي تميز بين أصول الدول وأصول المصارف المركزية. ما تملكه الدولة مباشرة هو الذي يمكن أن يُحجز عليه. أبرز أملاك الدولة في الخارج هو مقرات بعثاتها الدبلوماسية، لكن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961) تنص في المادة 22 منها (الفقرة على الثالثة) بوضوح على أنه «لا يجوز أن تكون مباني البعثة أو مفروشاتها أو كل ما يوجد فيها من أشياء أو كافة وسائل النقل عرضة للاستيلاء أو التفتيش أو الحجز لأي إجراء تنفيذي». وهذا يعني أن الحجز يفترض أن يتم على أصول تجارية أو استثمارية تملكها. ولبنان لا يملك مثل هذه الأصول. هذا يعني أن الدائنين لن يكون بمقدورهم عاجلاً أم آجلاً سوى السير في خطة لإعادة الهيكلة تضمن لهم جزءاً من أموالهم.
مصرف لبنان يضغط على الحكومة: مليارا دولار إلى الخارج!
كانت المفاوضات مع الدائنين لتكون أسهل لو لم تعمد المصارف التجارية إلى بيع سندات يوروبوندز إلى الخارج. تلك «جريمة» لا يزال القضاء يحقق فيها. فهذه الخطوة جعلت نسبة الدائنين الخارجيين ترتفع في استحقاق 9 آذار (1.2 مليار دولار) إلى 71 في المئة، بعدما كانت تقلّ عن 40 في المئة. لكن بحسب المعلومات فإن مصرف لبنان لم يكن أكثر حرصاً على المصلحة العامة من المصارف التجارية. تؤكد مصادر متابعة أن مصرف لبنان عمد بدوره إلى تسديد جزء من الفوائد المستحقة للمصارف عبر سندات يوروبوندز، بقيمتها السوقية ( نحو 27 دولاراً بدلاً من 100 دولار). الهدف المعلن هو عدم التفريط بالسيولة النقدية والمحافظة على الاحتياطي الذي يملكه. لكن هذه الخطوة أدّت أيضاً إلى زيادة الضغط على الدولة، لأن المصارف عمدت بدورها إلى بيع هذه السندات إلى الخارج لتسييلها والحصول على النقود، ما أدى عملياً إلى انتقال ملكية السندات من مصرف لبنان إلى مستثمرين أجانب، بما يعنيه ذلك من تعقيد لمهمة لبنان التفاوضية مع الدائنين. علماً أنه يتردد أن قيمة هذه السندات وصلت إلى ملياري دولار.