إستبقت الحكومة زيارة وفد صندوق النقد الدولي، التي تصادف اليوم الواقع فيه 19 أيلول، بتسريب نسخة معدلة من خطة التعافي. واكبتها الهيئات الاقتصادية التي تضم 18 جمعية فاعلة في الاقتصاد بخطة مشابهة. بالتزامن تقفل المصارف ابتداء من اليوم أبوابها لثلاثة أيام على خلفية تنفيذ المودعين أوسع عملية اقتحام للمصارف لاسترداد حقوقهم بالقوة وتحت ضغط السلاح. الامر الذي بدأ ينذر جدياً بتفلت الوضع، إن لم يبدأ تطبيق خطة تعاف جدية تضمن استرجاع المودعين لأموالهم، ولا سيما الصغار منهم.
بعيداً عن نظريات المؤامرة، فان تزامن هذه الاحداث قد يشكل مشهداً ضاغطاً يليّن حديد «الصندوق» للموافقة على التعديلات الحكومية، المتعلقة بانشاء «صندوق لاسترداد الودائع»، أو ما يعني استخدام جزء من عائدات القطاع العام، بطريقة أو بأخرى، للتعويض على المودعين.
كان طرحاً غير مقبول
مثل هذه الطروحات كانت مرفوضة سابقاً من الصندوق على خلفية أن أي ربط بين الموازنة العامة وخسائر القطاع المصرفي عبر الفائض الاولي، حتى لو على أساس محتمل يبقى موضوعاً غير مقبول من ناحية المبدأ. إذ إنه يقوض أعمدة برنامج الاصلاح ولا يخدم التعافي الاقتصادي. بيد أن التعديل هذه المرة لم يربط بين اصول الدولة وصندوق التعويض بشكل مباشر، إنما من خلال حسن إدارة المؤسسات العامة من القطاع الخاص والبدء بتحويل الفوائض إلى صندوق الودائع بعد ضمان استدامة الدين وتحقيق النمو والانماء.
عدم قطع الأمل
في الوقت الذي يظهر فيه أن هناك انطباعاً عاماً بان صندوق النقد أصبح أكثر مرونة بالتعامل مع فكرة إنشاء صندوق يهدف إلى ضمان اعادة الودائع، يرى الخبير المصرفي جان رياشي أنه «من الصعب تسويق خطة لا تعطي المودعين الامل بامكانية استرداد ودائعهم، وبأنه سيجري شطبها». بيد أن مشكلة الصندوق تتمثل في المقاربات التي تعتمدها الحكومة اللبنانية. فـ»الفكرة منه تنطلق من وقائع وحقائق لم تعد مخفية على أحد»، من وجهة نظر رياشي، ومنها أن «الودائع بكل بساطة لم تعد موجودة، أو كما يقال باللغة العامية «طارت». وإعادة تكوينها وهم. وعليه من المفترض التوصل إلى حل. بمعنى أن يكون هناك قطاع مصرفي سليم من جهة، والبحث من بعدها بكيفية إرجاع المقدور عليه من الودائع من الجهة الثانية».
حماية صغار المودعين
من الواضح في الخطة أن فلسفة الحكومة تقوم على حماية صغار المودعين، وذلك من خلال ضمان ارجاع حتى 100 ألف دولار من الودائع بقيمتها الفعلية أو بالليرة اللبنانية على سعر صرف السوق الموازية. وهذا يعود بحسب رياشي إلى أن «هناك نوعاً من التفكير الاجتماعي الذي يعتبر أن الوديعة الصغيرة تؤثر على نمط حياة المواطنين، في الوقت الذي قد يملك صاحب الوديعة الكبيرة غير ممتلكات وأصول في الداخل والخارج تساعده على الصمود والاستمرار. مع العلم أنه لا يمكن تعميم هذه النظرية على الجميع. فهناك مودعون كبار لا يملكون إلا هذا المبلغ الموجود في المصرف، والذي تراكم نتيجة سنوات من العمل في الداخل أو الخارج، وهم يعتمدون عليه لضمان مستقبلهم أو لتسيير أمور عائلاتهم.
عبء الودائع الكبيرة
أما القول إن الودائع الكبيرة مهمة لاعادة تنشيط الاقتصاد كونها تشكل مركز الثقل في الاقراض، فيعتبر رياشي أن «هذه النظرية مبالغ بها، هذا إن لم نقل إنها خاطئة. فهذه الودائع غير موجودة بالاساس، وهي حبر على ورق مسجلة في الدفاتر فقط. وعليه فان هذه النظرية التي يحاول البعض «بيعها»، مغلوطة. حيث أن وجود هذه الودائع في دفاتر مطلوبات المصارف تشكل عبئاً على الاقتصاد. لانها ببساطة تمنع المصارف من العمل بشكل طبيعي واستعادة طريقة العمل السليمة وفقاً للقواعد المحاسبية الصحيحة. وبالمنطق لا يمكن اعادة هيكلة ورسملة مصرف إذا كانت مطلوباته أكثر من موجوداته بأضعاف مضاعفة، فكيف إذا كانت مجمل هذه الخسائر تقدر بشكل عام بتسعة أضعاف. وبالتالي لا يمكن الابقاء على هذه الخسارة في القطاع المصرفي».
إذا افترضنا بحسب أرقام خطة الحكومة الاخيرة أن المطلوبات من القطاع المصرفي تبلغ 92.5 مليار دولار، والموجودات (التوظيفات الإلزامية) لا تتجاوز 8 مليارات حالياً، إضافة إلى إمكانية تحصيل ما يقارب 13 مليار دولار من قروض القطاع الخاص بوتيرة 400 إلى 500 مليون دولار شهرياً عند البدء بالعمل على اعادة هيكلة المصارف، فان الفجوة ستبقى كبيرة جداً وهي تقدر بحسب الخطة بـ 72 مليار دولار. وعليه يرى رياشي أنه «لا يوجد حل إلا باخراج الودائع الكبيرة من دفاتر المصارف، لانه ليس بالامكان رسملة المصارف بـرقم يتراوح بين 72 و80 مليار دولار. ومن الجهة الثانية يعتبر أن»استرجاع ثقة المستثمرين واللبنانيين المغتربين لا تتم بالابقاء على هذه الودائع في دفاتر المصارف إنما بتنظيف المصارف، وإدارتها بطرق سليمة ورقابتها. وفي الواقع فان هذه الاستثمارات والتوظيفات لا تعود لأن المصرف أعاد الودائع».
توزيع الخسائر
بشكل عام فان خطة الحكومة التي تهدف إلى حماية الودائع لغاية 100 ألف دولار تكلف المصارف حوالى 20 مليار دولار. وقد قسمت هذه الخطة الودائع بين مؤهلة وغير مؤهلة. إلا أن هذه الحماية الموعودة ستترافق بالتنفيذ مع ظلم الكثير من المودعين. إذ يعتبر رياشي أن المئة ألف دولار من الوديعة لن تعود بكاملها، بل ستحسم منها المبالغ التي استفاد منها المودع خلال السنوات الماضية سواء كان بشكل مباشر من المصرف أو نتيجة التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان مثل التعميم 151، الذي يعيد الودائع على سعر صرف 8000 ليرة والتعميم 158 الذي يعيد 400 دولار «فريش» و400 دولار بالليرة اللبنانية على أساس سعر صرف 12 ألف ليرة للدولار. وهي ستكون ناتجة عن مجموع جميع الحسابات في المصرف الواحد أو في عدة مصارف. في المقابل فان حتى رقم 20 مليار دولار يعتبر كبيراً بالنسبة للمصارف ويفترض بحسب واقعها الحالي أنه غير متوفر. وبالتالي يرى رياشي أن «هذه الخطة يجب أن تترافق مع التعهد من مجالس إدارتها وأصحابها بتأمين الرأسمال الكافي، وهذا لا يتم إلا باعادة ضخ الدولارات النقدية في الرساميل».
من جهة ثانية وضعت الخطة الودائع الكبيرة، والتي تقدر قيمتها بـ30 مليار دولار، في الصندوق الذي تقترح إنشاءه، وذلك بعد إعادة تحويل الودائع المدولرة بعد 17 تشرين إلى الليرة، وحسم فوائض الفوائد على الودائع التي تفوق حداً معيناً (100 ألف دولار) بعد العام 2015. و»هنا سيحمل المودع سنداً، ويجلس ينتظر تحسين قيمته لكي يسترد أكبر قدر ممكن من الوديعة»، يقول رياشي. و»إذا افترضنا السير بهذا الطرح للنهاية، فان التجربة اللبنانية السابقة والحالية غير مشجعة. وعليه يشبه هذا الطرح «بيع المودعين سمكاً بالبحر». فقد تتحسن قيمة السندات وقد لا تتحسن. خصوصاً أن تعزيز إيرادات الصندوق مرتبطة باستعادة الاموال المهربة وغير الشرعية وأصول المصارف، ورفده بفوائض النمو بعد ضمان استمرار استدامة الدين العام وتحقيق الانماء الاجتماعي وتحسين البنية التحتية. إلا أنه من وجهة نظر رياشي فان الواقعية تفترض علينا القول إن «القبول بهذه الخطة يبقى أفضل من شطب الودائع». ولو أنه من المؤكد أن «القيمة المستقبلية لهذه الودائع المستردة لن تكون على قدر قيمتها الحقيقية».
“فلسفة” الخطة
أثيرت تحفظات على بند إعادة الودائع المدولرة بعد 17 تشرين الاول 2019 إلى الليرة على سعر صرف غير حقيقي، ومنها لمصرفيين. مع التشكيك بامكانية تحصيل فوائض الفوائد من الودائع التي تزيد عن 100 ألف دولار بعد العام 2015، لكن الجدل الاكبر متعلق بانشاء «صندوق استرداد الودائع». وذلك على أساس أنه سيساهم في حماية البنوك على حساب الملك العام. لكن في الحقيقة أن «الهدف من الخطة هو إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بما فيه مصرف لبنان، لكي لا يستمر كـ»زومبي بنك»، يشدد مصدر متابع. وهذا يفترض من الناحية المحاسبية بحسب الخطة ثلاثة أمور أساسية:
– أن تكون أصول القطاع المصرفي توازي مطلوباته قبل الانطلاق باعادة الرسملة.
– أن لا تتخطى نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي المئة في المئة. وذلك لكي تحافظ على استدامة الدين، بمعنى أن يكون الناتج المحلي أكبر من الدين لانه يسمح في هذه الحالة استرداد الفوائد التي تدفع على الدين من النمو المحقق. وهذا أيضاً يساعد على الخروج من «زومبي الدولة» ويسمح لها بتقدم الخدمات والقيام بعملها.
– كيفية إرجاع أموال المودعين من دون خلق تضخم، لحمايتهم وحماية المواطنين في الوقت عينه.
وعليه تنطلق الخطة من الحد من «فرط» الليلرة، لحماية المودعين من دون خلق دين على الدولة، وتحفيز المصارف على الرسملة. وقد افترضت الخطة تسديد قروض فردية وتجارية بنحو 13 مليار دولار. وحسم فائض الفوائد المستحقة على الودائع ما فوق 100 الف دولار منذ 2015 وتحويل هذه الودائع إلى الليرة اللبنانية على سعر صرف أقل من سعر صيرفة، هذا إن لم يكن على 8000 ليرة. أما بخصوص المبالغ المحولة من الدولار إلى الليرة بعد 17 تشرين الاول 2019 فستعاد ايضاً إلى الليرة لان مصرف لبنان لم يصدق بوعده مع المصارف بتأمين التغطية لها. واللافت أن الحكومة لم تحدد قيمة المبالغ المؤهلة وتلك غير المؤهلة لأنه لا يمكن معرفتها قبل رفع السرية المصرفية كونها تتغير كل يوم. ولحماية الامن الاجتماعي ضمنت الخطة تقسيطاً لغاية 100 الف دولار من الوديعة، ستتوزع بين اللبناني على سعر السوق والدولار. على أن لا تتخطى مجموع مجمل «الليلرة» نسبة 25 الف مليار ليرة سنويا أو ما يعادل 250 إلى 300 ألف مليار ليرة بعد 10 سنوات. وهذا يتوافق مع ما يطلبه البنك الدولي.
بعد كل هذه الاجراءات يبقى مبلغ يمكن أن يتراوح بين 25 و35 مليار دولار، سيخضع لـ bail in حتمياً، أو ما يعني مساهمة جزء منه برساميل المصارف من جهة ووضع المتبقي في صندوق استرداد الودائع كما اقترحت الخطة. وستمول هذه الودائع من عدة مصادر منها تضمين الصندوق أسهم المصارف من بعد اعادة الهيكلة، وشهادات الايداع المحمولة من مصرف لبنان، ونسبة معينة من السيولة تؤمنها المصارف والاموال المستردة من الخارج. إلا أن هذه المصادر ستبقى قاصرة عن إرجاع الودائع بالسرعة المطلوبة. لذا كان الاقتراح وضع بعض مؤسسات الدولة تحت إدارة القطاع الخاص لفترة محددة مع بقاء ملكيتها بيد الدولة، وتحويل الفوائض الناتجة عن هذه المؤسسات إلى الصندوق وذلك بعد تأمين استدامة الدين العام والوصول إلى مستوى لائق للانفاق الاجتماعي والبنى التحتية.