«رشوة» بائسة للقطاع العام

يدّعي حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أنّ المنصّة أُنشئت لـ«التخفيف عن موظفي القطاع العام، والحدّ من الضغط على سعر الصّرف وتدهور الليرة». لكن منذ إنشائها في 27 حزيران 2021 إلى اليوم، تضاعف سعر الدولار عليها 6 مرّات، من 14,400 ليرة لكلّ دولار، إلى 86,200 ليرة، فيما انخفض أساس راتب الموظف في القطاع العام إلى ما دون الـ30 دولاراً. وبدلاً من تعديل سلسلة الرواتب كما حصل في عام 2017، جرى ترقيعها بزيادات استثنائية من خارج أساس الرّاتب. هكذا أصبحت «صيرفة» أداة بائسة لدعم رواتب القطاع الخاص، فيتقاضى موظفوه دخلهم على سعر «صيرفة» ويستفيدون من فرق سعر الدولار في السوق الحرّة.

لم تقدّم المنصة أي جديد للعاملين في القطاع العام، بعكس ما يروّج له «إعلام مصرف لبنان». «العامل في القطاع العام لا يستفيد من تقديمات المنصة سوى مرّة واحدة شهرياً، ولا تزيد استفادته على الـ150 دولاراً في أحسن الأحوال» بحسب النقابي محمد قاسم، الذي يصف وضع الموظفين معها بـ«لحس المبرد». في المقابل، أكّدت المنصّة المؤكّد، فمتوسط رواتبهم انخفض من نحو 1000 دولار قبل عام 2019، إلى أقل من 100 دولار اليوم. والمنصّة لم تسهم سوى في إيصال دولارات قليلة جداً إلى أيدي الموظفين رغم زيادة حجم الرواتب بالليرات مع لجوء الحكومة إلى «سياسات الترقيع»، إذ عمدت منذ نهاية 2020 إلى إعطاء زيادات على الرواتب للموظفين، والمعاشات للمتقاعدين، من دون أن تدخل في صلب الراتب. وقد بدأت الزيادات بنصف راتب آخر عام 2020، عندما راوح سعر الدولار في السّوق الموازية حول الـ8 آلاف ليرة، ومن ثمّ 3 رواتب في موازنة عام 2022 مع دولار وصل إلى حدود الـ45 ألفاً، وصولاً إلى 7 مرّات قيمة أساس الرّاتب حالياً بمقترح قانون، في الوقت الذي يقف فيه دولار السّوق السّوداء عند حدود الـ94 ألفاً.

في الشّكل، فإن المنصّة «نوع من الإغراء لإرضاء الموظف والمتقاعد» يقول قاسم، والهدف منها فقط «إعطاء فرصة للتجار لتحقيق مكاسب». ويضيف بأنه «عندما أطلق المصرف المركزي تعميم صيرفة، كان الهدف، كما يدّعي هو الحد من انهيار صرف الليرة وتوفير الدولارات للتجار والصيارفة والمستوردين وللحد أيضاً من ارتفاع أسعار السّلع، ولخفض المضاربات على الدولار». أمّا الممارسة اليومية، فتبيّن «أنّ هناك قطبة خفيّة، فالمستفيد الأول هو التجار والصيارفة، بحيث كانت الأرباح توزع في ما بينهم، والخاسر الأكبر هو مصرف لبنان، الذي دفع ما يقارب الملياري دولار على هذه المنصة».

«هي نوع من الرّشوة» على حدّ توصيف مستشار التنمية ومكافحة الفقر أديب نعمة. برأيه هي «إلهاء للناس، لتوجيههم نحو إجراءات مصلحية وآنية مباشرة، إذ يستفيد المتعامل جزئياً، إنّما على حساب غيره». وعدم وجود حركة اعتراضية من الناس على صيرفة سيؤدّي إلى «تآكل إضافي للودائع الموجودة في مصرف لبنان». ويشير نعمة إلى أنّ «المواطن المستفيد بـ100 دولار اليوم، سيكون بعد 5 سنوات مثلاً موافقاً ومشاركاً في تذويب وديعته ووديعة غيره». وحول مستقبل العمل على المنصة، يتخوّف نعمة من استخدامها للقول: «إنّها ساعدت اللبنانيين للعيش في رفاهية، في أمر مشابه لحقبة التسعينيات عند تثبيت سعر الصّرف، في حين أنّ المستفيد الحقيقي من لديه مصادر مالية كبيرة وقدرة للوصول إلى المصارف». ويشير إلى أن «الناس يفتشون عن وسائل للتخفيف من أزمتهم من خلال منصّة صيرفة، ولكنّ آليتها هي من آليات النهب، وعدم تحمل المسؤوليات، واستنزاف الموارد». ويتخوّف نعمة من «أن السّلطة السّياسية تحضّر الناس لما هو أبشع، عبر تشريك الآخرين في الفساد، فالأعلى يشرك الأدنى كي لا يحكي أحد على أحد. هذا توريط للمواطنين قسراً، ورغماً عنهم، للدخول في سوق المضاربة».

هذه المنصّة أغرت روابط الموظفين طمعاً في تحقيق تعديل على رواتبهم، يرفعها إلى ما نحو 400 دولار شهرياً. ورأت رابطة موظفي الإدارة العامة في «اعتماد 15 ألف ليرة لكلّ دولار كسعر خاص على المنصّة بالموظفين، بالإضافة إلى مضاعفة الراتب 3 مرّات» أمراً يعيد إلى الموظف جزءاً من إنتاجيته. بعدها تبنّت روابط التعليم المطلب نفسه قبل أن تتراجع عنه وترضخ لتتقاضى رواتبها على أعلى سعر بلغته المنصّة والذي يساوي 90 ألف ليرة للدولار. رغم ذلك، فإن الجهة الوحيدة التي تمكّنت من تعديل سعر الدولار على المنصّة، وكسر قرار حاكم مصرف لبنان لمرّة واحدة، كانت روابط المتقاعدين التي تمكّنت بالتظاهر وإقفال المصرف، من فرض التعديل على الحاكم، وإعادتها إلى 60 ألفاً لشهري نيسان وأيار الماضيين، في حين كان دولار صيرفة مساوياً لـ90 ألفاً. أي أن مصرف لبنان يفهم منطق القوّة فقط، فهو يستخدم هذه الوسائل في التعامل مع الأزمة، عوضاً عن القانون. وللمفارقة، فـ«صندوق النقد والبنك الدولي يطلبان منه العمل وفقاً لقواعد السّوق، بينما هو يعتمد سياسات البلطجة» بحسب مستشار التنمية ومكافحة الفقر أديب نعمة.

الموظفون في مصيدة الصرّافين

ساهمت منصة صيرفة في إذلال الموظفين، ولا سيّما في الأيام الأولى لانطلاقتها، إذ كانت المصارف تتحجّج بـ«عدم فتح صيرفة من المركزي»، فيتراكم الموظفون بالطوابير أمام الصّرافات الآلية بانتظار الإفراج عن 100 دولار أسبوعياً. كما حوّلت جزءاً منهم إلى صرّافين، ينتظرون تغيّر سعر الدولار على رأس كلّ شهر قبل تحريك رواتبهم. وأوقعتهم أيضاً في مصيدة الصرّافين، فالمنصة تتيح تحويل أموال من الليرة إلى الدولار على سعر أقل من سعر السّوق السوداء، إلى أصحاب الحسابات المصرفية، ومنهم الموظفون. فيقوم الصرّاف، الذي يمتلك كتلة مالية كبيرة بالليرة بـ«استئجار حساب الموظف المصرفي»، مقابل جزء بسيط من الرّبح، إذ إنّ تحويل مليار ليرة مثلاً إلى الدولار على سعر صيرفة يؤدّي إلى ربح بقيمة 1100 دولار. ولكن يحصل صاحب الحساب منها على أكثر من 200!

مصدرجريدة الأخبار - فؤاد بزي
المادة السابقةتجديد العقد بين أركان النظام
المقالة القادمةإقبال في مطار بيروت «بأعداد لم يشهدها منذ 2018»… وإجراءات لمواكبة الزحمة