حتّى منتصف الشهر الراهن، لم يكن ضجيج الحرب وتصاعد الأحداث العسكريّة قد أثّر على أبرز المؤشّرات والتوازنات النقديّة، كما عكستها الأرقام التي ينشرها دوريًا مصرف لبنان. بحسب بيان الوضع المالي، وخلال النصف الأوّل من هذا الشهر، استمرّت الاحتياطات بالتراكم وفقًا لنفس النمط الذي شهده المصرف المركزي منذ أكثر من سنة، وباستخدام نفس الأدوات المعهودة. وتمامًا كما كان متوقّعًا، حقّق المصرف كتلة جديدة من الأرباح في ميزانيّته، جرّاء ارتفاع أسعار الذهب، الذي سبق القرار المتوقّع برفع الفوائد الأميركيّة هذا الأسبوع. كما سجّلت حسابات القطاع العام زيادة جديدة في حجم ودائعها، مع زيادات موازية في حجم ودائع القطاع المصرفي لدى مصرف لبنان.
الزيادات في احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة
وفقًا لأرقام المصرف المركزي، ارتفع حجم الاحتياطات السائلة بالعملات الأجنبيّة من 10.7 مليار دولار في بداية شهر أيلول، إلى 10.79 مليار دولار في منتصف الشهر، بعد تسجيل زيادات بقيمة 83.77 مليون دولار في هذه الاحتياطات. وبهذا الشكل، يكون المصرف المركزي قد رفع احتياطاته بقيمة 2.01 مليار دولار أميركي، منذ أواخر شهر تمّوز 2023، أي منذ لحظة انتهاء ولاية الحاكم السابق رياض سلامة، واستلام نائبه الأوّل مهام الحاكم بالإنابة، بمعاونة نوّاب الحاكم الآخرين.
وبذلك يمكن القول أنّ الحرب الدائرة لم تؤثّر على نمط الزيادات المتتالية في الاحتياطات منذ تلك اللحظة، ولا على الأدوات التي تم اعتمادها لتحقيق هذه الزيادات. وهنا، يمكن الإشارة إلى أنّ أهم أدوات تحقيق هذه الزيادات تركّزت على شراء الدولارات النقديّة من السوق الموازية، في مقابل امتصاص الليرات النقديّة عبر تحصيل الرسوم والضرائب، واعتماد سياسة تقشفيّة صارمة تحد من الإنفاق العام. هذا النموذج المعتمد منذ أكثر من سنة، لم يتغيّر اليوم.
من جهة أخرى، سجّلت قيمة احتياطات الذهب الموجودة لدى مصرف لبنان زيادة معتبرة، من 23.26 مليار دولار في بداية شهر أيلول، إلى 23.7 مليار دولار في منتصف الشهر، ما يعني أنّ المصرف حقّق زيادة كبيرة قيمتها 433.63 مليون دولار خلال النصف الأوّل من هذا الشهر. وكما هو معلوم، جاء هذا التطوّر مدفوعًا بالزيادات في أسعار الذهب العالميّة، إذ يقوم المصرف المركزي بإعادة تقييم الذهب الموجود بحوزته وفقًا لهذه الأسعار. وخلال الأسبوعين الماضيين، سجّلت أسعار الذهب عالميًا زيادات سريعة، في ضوء التوقّعات بخفض فوائد الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وهو ما حصل بالفعل هذا الأسبوع.
لغاية المقارنة، يمكن التذكير بأن قيمة احتياطات الذهب كانت توازي نحو 18.03 مليار دولار في أواخر شهر تمّوز 2023، أقل قبل نحو سنة وشهر، ونصف الشهر. وبذلك تكون قيمة الاحتياطات قد سجّلت ارتفاعًا بنحو 5.67 مليار دولار منذ تلك الفترة، بدفع من ارتفاع أسعار الذهب العالميّة، وعلى وقع التوتّرات الجيوسياسيّة في منطقة الشرق الأوسط وانتهاء حقبة التشديد النقدي في الغرب. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن المركزي حقّق زيادة نسبتها 31.44% خلال الفترة، في قيمة احتياطات الذهب الموجودة بحوزته، وهو ما يقلّص بدوره من حجم الفجوة المتراكمة في ميزانيّته.
وعلى أي حال، من المفترض أن تنعكس هذه التطوّرات طبعًا على الملاءة المحاسبيّة للميزانيّة، من دون التأثير على سيولة المصرف المركزي وقدرته على التعامل مع الأزمة حاليًا. إذ لا يمكن بطبيعة الحال التصرّف بهذا الذهب أو المساس به، إلا بموجب تشريع خاص من المجلس النيابي. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أنّ مصرف لبنان يعتمد حاليًا معايير محاسبيّة خاصّة، تسمح بتقليص حجم الخسائر المتراكمة في الميزانيّة، بقدر موازي للزيادات في قيمة احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة.
حسابات القطاع العام والكتلة النقديّة
حجم السيولة المتداولة ورقيًا خارج مصرف لبنان، بالليرة اللبنانيّة، لم يشهد أي توسّع كبير خلال النصف الأوّل من هذا الشهر. فبينما بلغت قيمة هذه السيولة نحو 57.19 ترليون ليرة في بداية شهر أيلول، ظلّت هذه القيمة مستقرّة عند مستوى 57.35 ترليون ليرة في نهاية الشهر. وبذلك يتبيّن أنّ المصرف لم يضطر إلى ضخ كميّات كبيرة من السيولة بالليرة خلال هذه الفترة، رغم تدخّله لشراء الدولارات من السوق. وهذا يعود، كما ذكرنا سابقًا، لسياسة امتصاص الليرات عبر تحصيل الضرائب والرسوم بالعملة المحليّة، والحد من الإنفاق العام.
من هذه الزاوية، يمكن فهم التغيّرات التي طرأت على حساب ودائع القطاع العام، الذي ارتفعت قيمته خلال الفترة نفسها من 5.72 مليار دولار أميركي في بداية شهر أيلول، إلى ما يقارب الـ 5.78 مليار دولار في منتصف الشهر، ما حقّق زيادة قدرها 52.87 مليون دولار خلال تلك الفترة. وبذلك تكون سياسة التقشّف وامتصاص الليرات قد ساهمت –كما حصل طوال الأشهر الماضية- في استمرار تكدّس العائدات والإيرادات العامّة لدى المصرف المركزي. وهذه السياسة يفترض أن تشهد مراجعة جديّة خلال الأشهر المقبلة، في ضوء موازنة العام المقبل، التي لحظت الزيادة في الإيردات مقابل لحظ اعتمادات ونفقات إضافيّة لمختلف الإدارات والمؤسسات العامّة.
في خلاصة الأمر، أهم ما يمكن استناجه هنا هو أنّ أدوات الاستقرار النقدي مازالت متاحة بيد المصرف المركزي، بمعزل عن الآراء المتضاربة بخصوص فعاليّة وجدوى هذه السياسات. ومن غير المرتقب، حتّى هذه اللحظة، أن تؤدّي الأحداث الجارية إلى اضطرابات نقديّة غير مألوفة، بما يعاكس الثبات الذي سجّله سعر الصرف منذ أكثر سنة، أو بما يخالف نمط تكديس الاحتياطات والإيرادات العامّة.