منذ عدّة أيّام، تدور النقاشات داخل مصرف لبنان حول إمكانيّة رفع سعر صرف الدولار المصرفي بحدود الثلاثة أضعاف، أي من 15 ألف ليرة للدولار الأميركي إلى 35 ألف ليرة للدولار، مع احتمال رفعه إلى 40 ألف ليرة لبنانيّة. مع الإشارة إلى أنّ سعر صرف الدولار المصرفي هو سعر الصرف المعتمد في المصارف للسحب من الودائع المدولرة بالليرة اللبنانيّة، وفقًا لمندرجات التعميمين 151 و158.
توقيت النقاش، لا يمكن فصله عن التفاؤل ببداية موسم الاصطياف، والتدفّق المتوقّع لدولارات المغتربين الزائرين إلى السوق المحليّة، ما يمكن أن يلجم التداعيات على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، جرّاء خلق النقد الإضافي بالليرة بعد رفع سعر صرف السحوبات المصرفيّة. ومع ذلك، تشير التوقّعات إلى أنّ الهروب من سيناريو الضغط على سعر الصرف سيكون مستحيلًا، حتّى لو تدفّقت إلى سوق القطع دولارات سياحة المغتربين الموعودة.
تعديل الدولار المصرفي أو سعر الصرف الرسمي؟
حين تم تحديد سعر صرف الدولار المصرفي 15 ألف ليرة للدولار الأميركي، تزامن ذلك مع تحديد سعر الصرف الرسمي عند المستوى نفسه، ما أوحى بأن الخطوة تقلّص الفوارق الموجودة بين أسعار الصرف المتعددة. ومن المعلوم أنّ سعر الصرف الرسمي يُعتمد حاليًا للتصريح عن أصول وإلتزامات مصرف لبنان والمصارف التجاريّة المدولرة بالليرة اللبنانيّة، ما يربطه بشكل تلقائي بالفجوة وكتلة الخسائر التي تظهر في تلك الميزانيّات.
وفي الوقت الراهن، يتم البحث بخيارين: إمّا الاكتفاء برفع سعر صرف الدولار المصرفي وحده، مع الإبقاء على سعر الصرف الرسمي على حاله. أو رفع سعري الصرف معًا، كما جرى عند تحديدهما عند حدود 15 ألف ليرة للدولار في الفترة الماضية. وفي الحالتين، ثمّة محاذير وإشكاليّات لكل خيار.
فرفع سعر صرف الدولار المصرفي وحده، سيعني العودة إلى التباين بين سعر الصرف هذا وسعر الصرف الرسمي، ما يزيد من تعدديّة أسعار الصرف، التي يسعى مصرف لبنان إلى تقليص تفاوتها وأعدادها بشتّى الطرق. ويدرك مصرف لبنان جيّدًا أنّ خطوة توحيد أسعار الصرف هي إحدى شروط التفاهم المبدئي مع صندوق النقد الدولي، التي أشار الصندوق بوضوح إلى مسؤوليّة مصرف لبنان عن عدم تحقيقها حتّى الآن.
أمّا رفع سعر الصرف الرسمي مع سعر صرف الدولار المصرفي، فسيقلّص من تباين وتعدد أسعار الصرف، كما سيقرّب سعري الصرف معًا من سعر صرف المنصّة. لكن ذلك سيزيد من انكشاف الخسائر في ميزانيّتي المصارف ومصرف لبنان، ما سيخلق إشكاليّة بالنسبة إلى المصارف التي لا ترغب في الوقت الراهن في كشف الخسائر وتحميلها إلى رساميلها. مع العلم أنّ هذه الخسائر تتكوّن تحديدًا من الفرق الشاسع بين حجم الإلتزامات وقيمة الموجودات المتبقية بالعملات الأجنبيّة، ورفع سعر الصرف المعتمد للتصريح عن الميزانيّات سيكشف هذا الفارق بشكل أوضح.
التفاؤل الفارغ بدولارات المغتربين
مضاعفة سعر الصرف المعتمد لتأمين السحوبات المصرفيّة بنحو ثلاثة أضعاف، سيضاعف كميّة النقد الذي يحتاج مصرف لبنان إلى خلقه لتأمين السحوبات بالقدر والنسبة نفسها. وبما أنّ أي خلق للنقد بالليرة اللبنانيّة سيتحوّل تلقائيًا وفورًا إلى طلب على الدولار، إمّا للادخار أو الاستهلاك، فمن الطبيعي أن تُنتج الخطوة ضغطًا إضافيًا على قيمة الليرة اللبنانيّة في السوق الموازية. كما من المتوقّع أن تؤدّي إلى بعض العبث بتوازنات العرض والطلب في السوق، التي حرص مصرف لبنان على الحفاظ عليها طوال الأشهر الماضية لضمان استقرار سعر الصرف.
وتجدر الإشارة إلى أنّ سعر صرف الدولار في السوق الموازية تراوح بشكل هادئ عند مستويات تقل عن 95 ألف ليرة للدولار منذ الأسبوع الأوّل من شهر أيّار، نتيجة تدخّلات المصرف المركزي وضخّه للدولار بشكل منتظم عبر منصّة صيرفة، وتحكّمه بحجم عمليّات امتصاص الدولار من السوق الموازية بشكل حذر. وحسب النقاشات الدائرة في مصرف لبنان، يُخشى أن تؤدّي الخطوة إلى الإطاحة بهذا الاستقرار النسبي، ما سيعيد السوق إلى مرحلة الانهيارات السريعة والمتتالية بسعر صرف الليرة اللبنانيّة.
الرهان الأساسي هنا، هو على تزامن هذه الخطوة مع تدفّق كميّة من الدولارات إلى السوق، جرّاء ارتفاع معدّلات زيارات المغتربين خلال فصل الصيف. فتدفّق الدولارات خلال فصل الصيف، مقابل زيادة الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، من شأنه –بحسب هذا الرهان- أن يوازن ما بين متغيّرات العرض والطلب، بانتظار انتهاء موسم الاصطياف واضطرار مصرف لبنان لزيادة تدخّله في السوق لإبقاء هذا التوازن.
إلا أنّ المشكلة في هذا الرهان هو افتراضه أنّنا أمام سوق منظمة وشفافة، يملك مصرف لبنان فيها جميع الخيوط المطلوبة لمواءمة العرض والطلب، وتنظيم عمليّات بيع وشراء الدولار. في حين أنّ لبنان، وكما يعلم الجميع، يعيش تحت رحمة سوق سوداء متفلّتة من سيطرة القطاع المالي الرسمي، من دون أن يملك مصرف لبنان قدرة التحكّم بتداولاتها. وهذه المسألة، ترتبط بدورها بفشل منصّة صيرفة، التي كان من المفترض أن تكون أداة التداول الأساسيّة بالعملة الصعبة في السوق، تحت رقابة وسيطرة المصرف المركزي الذي يتوسّع في تدخّله بحسب الحاجة.
في ظل السوق المتفلّتة، ثمّة هامش كبير لعمليات المضاربة واكتناز العملة الصعبة، التي يقوم بها لاعبون لا تمر عمليّاتهم بالنظام المالي الرسمي. لذلك، وتمامًا كما جرى خلال فصل الصيف الماضي، قد لا ينعكس تدفّق الدولارات هذه في تطوّرات إيجابيّة على مستوى موازين العرض والطلب، ما سيحول دون لعبها دورًا إيجابيًا على مستوى استيعاب تداعيات قرار رفع سعر صرف الدولار المصرفي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تدفّق دولارات المغتربين خلال موسم الاصطياف، سيتزامن مع زيادة موازية في الطلب على الدولار بسبب زيادة الاستيراد، لتلبية حاجات الموسم السياحي وتأمين حاجات المغتربين، ما سيقلّص من المفعول الإيجابي لتدفّق دولارات. أمّا القيمة الفائضة كربح للمؤسسات التجاريّة، فستبقى على حالها بالدولار الأميركي، من دون أن تتحوّل إلى طلب على الليرة، بسبب انعدام الثقة التجّار بالعملة المحليّة. وهذا ما يشير بوضوح إلى حجم المبالغة في الرهان على دولارات السيّاح والمغتربين خلال فصل الصيف.
في خلاصة الأمر، إذا حصلت الخطوة قريبًا، فستؤدّي إلى ضغوط على سعر صرف الليرة ومستوى التضخّم، كما ستؤدّي إلى اختلالات إضافيّة في موازين العرض والطلب على العملة الصعبة في السوق، بخلاف ما يراهن عليه البعض داخل مصرف لبنان. وفي حال حصول تدهور إضافي في سعر صرف الليرة، فسيزداد مجددًا حجم الاقتطاع من قيمة السحوبات، بسبب زيادة الفارق بين قيمة الدولار المصرفي وسعر صرف السوق الموازية. وهذا ما سيطيح مجددًا بالتحسّن الذي استفاد منه المودع، بعد زيادة سعر صرف الدولار المصرفي.
كل هذا المشهد القاتم، ليس سوى نتيجة لاستمرار مصرف لبنان بسياسة شراء الوقت، عبر معالجة أزمة المودعين بالتعاميم الهجينة، وتسديد الودائع المدولرة بالليرة، بدل الشروع بعمليّة تدقيق وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومعالجة خسائره.