بين المصارفِ والمحالِ التجارية والسوبرماركت يكتمل مشهد الإذلال اليومي للبنانيين. خمسة أسعار لسعر صرف الدولار وأسعار خياليّة للسلع الغذائية الأساسيّة غير المستوردة، أما تلك المستوردة فتمثّل جرائم شنيعة بحق الجيوب الفارغة أصلًا، وباتت تشكّل يوميًا على مواقع التواصل الاجتماعي مادة للتهكّم… من كثر الوجع!
وفق المقرّرات الرسمية لاجتماع المجلس الأعلى للدفاع وزير الاقتصاد راوول نعمه لا يزال “يعمل على ايجاد حلول للحدّ من زيادة الاسعار على المواد الاساسية”! هذا ما ورد حرفيًا في البيان الرسمي… وكأن النكبة في بدايتها. الوزير المفترض انّه المنقذ من براثن التجار الجشعين لا يتوانى دائمًا عن تقديم أسباب تخفيفية لارتكابات هؤلاء. الدليل: تبرير دائم لغلاء مردّه ارتفاع الدولار، وعجز غير مفهوم عن إقفال محل تجاري واحد مخالف على “كثرتهم”!
سيَصعب حَجب تقصير وزارة الاقتصاد في لجم “العدوان” الذي يمثّله الارتفاع غير المبرّر في أسعار السلع المحلية والإستغلال الوقح لبعض التجار لـ “تحليق” الدولار لزيادة الأرباح وضرب ما تبقى من مدخرات اللبنانيين. ثمّة من يعبث بالأمن الغذائي للمواطنين في مقابل تقصير رسمي فاضح عن ايجاد حلول فورية وصارمة، مع العلم أن المتطوعين بالآلاف لمساندة وزارة الاقتصاد في معركتها، تمامًا كما شهد الجسم الطبي حالات تطوّع لمكافحة فيروس كورونا.
والأهمّ، من ذلك ضرورة تجاوز جمعية حماية المستهلك مهمّة إصدار التقارير فقط حول بورصة أسعار المواد الاستهلاكية وتحرير محاضر ضبط بحق المؤسّسات والمحال المخالفة نحو إعلان حالة طوارئ تضع كارتيل التجار من أصحاب الاحتكارات عند حدّهم، حيث بات معلومًا أن فئة قليلة من هؤلاء تتحكّم بالسوق وبالتوزيع بالتواطوء مع أصحاب محال تجارية “تسعّر” أو تحجب بضائعها ثم تعرضها للبيع بما يؤمّن أرباحًا إضافية لها تتجاوز أحيانًا كثيرة نسبة 100% من سعر السلعة الأصلي. بلغت وقاحة صاحب محل تجاري في جبل لبنان الى القول “حتى في أيام الحرب والفوضى لا يمكن أن نكون محظوظين بجني الأرباح كما يحصل اليوم. إنها فرصة العمر”!!
هكذا تتآكل على عدّ الساعات القدرة الشرائية للمواطنين. عمليات سلب ونشل يومية على عين الدولة. وفق لائحة الأولويات يفترض أن يكون جشع التجار بند رقم واحد على طاولة الحكومة، فيما تؤكد مصادر مطلعة أن جلسة غد الخميس الوزارية ستتناول ملف فلتان الأسعار، ويسجّل في هذا السياق دخول وزارة الداخلية على الخطّ من خلال تفعيل عنصر المحاسبة بالاستعانة بالقوى الأمنية لمنع المخالفات. وبالتأكيد ضرب رأس أفعى “المضاربين” في بورصة أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية يتجاوز بأهميته بأضعاف مبلغ الـ 400 ألف ليرة الذي توزّعه الحكومة على الفئات المُحتاجة، خصوصًا أن هكذا مبلغ يتبخّر بلحظات في أصغر محل تجاري!
بنظر كثيرين كان يفترض ان يكون رئيس بلدية الغبيري معن الخليل على طاولة المجلس الأعلى للدفاع في اجتماع أمس أو ضيفًا فوق العادة في وزارة الاقتصاد ينقل اليها تجربة “كيف تربّي تاجرًا جشعًا”؟.
الرجلُ بكلَّ بساطةٍ طبّق القانون بإقفاله تعاونية أخفت مخزونها من حليب الأطفال من منتجات “نستله” لبيعها لاحقًا بسعر أعلى بعدما أعلنت الشركة عن نيّتها بَيع منتجاتها وفق سعر الصرف البالغ 4 آلاف ليرة. وهي بلدية الغبيري نفسها التي سبق لها أن وقفت بالمرصاد للأفران العاملة ضمن نطاق البلدية محذّرة إياها من “التوقف عن تسليم الخبز إلى الموزعين، أو المؤسسات الغذائية، أو المحلات، تحت طائلة اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق المخالف”. وهنا يجدر التساؤل عن المدى الذي يمكن أن تذهب اليه البلديات في قمع المخالفات لكنها تتمنّع عن ذلك!!
نموذجُ الغبيري مشجّع في معركة ضبط فحش الأسعار، يقابِله واقع مرير عكسته شركة “الدولية للمعلومات” بالأرقام حول “إلتهام” الدولار للأجور والرواتب ما أفقدها أكثر من 60% من قيمتها. وهو أمرّ ستكون تداعياته خطرة جدًا على مستوى الأمن الاجتماعي إن لم يتمّ تدارك الوضع من جانب السلطة السياسية.
فالدراسة التي أصدرتها “الدولية للمعلومات” تشير الى التراجع الكبير في قيمة الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام والقطاع الخاص والذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية (أي جميع العاملين في القطاع العام وأكثر من 95% من العاملين في القطاع الخاص).
وذكّرت الدراسة بالحدّ الأدنى للأجور البالغ 675 ألف ليرة أي ما يوازي 450 دولار على أساس سعر صرف الدولار 1,500 ليرة، فيما انخفض إلى 211 دولارًا على أساس سعر صرف الدولار 3,200 ليرة، وإلى 168 دولارًا على أساس سعر صرف الدولار 4,000 ليرة، بحيث بلغ التراجع نسبة 63% !
وأشارت “الدولية للمعلومات” الى انخفاض قيمة تعويضات ومخصّصات رئيس الجمهورية الشهرية (مقارنة بسعر صرف الدولار بين 1500 و4000) من 8,334 دولاراً إلى 3,125، ورئيس مجلس النواب من 7,884 دولاراً الى 2,956، ورئيس مجلس الوزراء من 7,884 دولارًا الى 2,956، والوزير من 5,750 دولارًا الى 2,156 والنائب (مع المساعدة الاجتماعية) من 7,334 دولاراً الى 2,750.
وشملت الدراسة الرواتب والتعويضات المتمّمة للراتب للعاملين في كافة الاسلاك الأمنية والعسكرية (المقارنة بين سعر الصرف على 1500 و4000) حيث أن الراتب الأعلى مع التعويضات قد انخفض لرتبة لواء (الدرجة الأعلى) من 5,637 دولاراً إلى 2,114 دولاراً، والعميد من 4,808 دولارًا الى 1,803، والعقيد من 3,475 دولارًا الى 1,303، والمقدم من 3,281 دولارًا الى 1,230، والرائد من 3,098 دولاراً الى 1,162، والنقيب من 2,610 الى 979، والملازم أول من 2,300 دولار الى 862.
وفي السلك الإداري، انخفضت الرواتب الأعلى من 6,057 دولاراً إلى 2,271 دولاراً، أما الرواتب الأدنى فقد انخفضت من 1,270 دولاراً إلى 476 دولاراً.
أما في السلك التعليمي، فكان الحدّ الأعلى لهذه الرواتب ما يوازي 3,497 دولاراً وانخفض إلى 1,311 دولاراً، أما الرواتب الأدنى فكانت 634 دولاراً وانخفض إلى 237 دولاراً.
وفي ما يخصّ القضاة العدليين، بينت الدراسة ان الراتب الاعلى ينخفض من 6،234 دولاراً الى 2،338 دولاراً، أما الراتب الادنى فينخفض من 2،734 دولاراً الى 1،025 دولاراً (لا تدخل ضمن هذه الرواتب التعويضات التي يتقاضونها من صندوق تعاضد القضاة).
أما اساتذة الجامعة اللبنانية، فينخفض راتب الاستاذ الجامعي الأعلى من 5،617 دولاراً ، أما الراتب الادنى فينخفض من 2،467 دولاراً الى 925 دولاراً.