تظهر بيانات تتبع السفن بالأقمار الاصطناعية أن العشرات من السفن الروسية والإيرانية، بما في ذلك بعضها الخاضع للعقوبات، تسير بالفعل على طريق تجاري جديد أنشأه البلدان في تحد للعقوبات الغربية.
ويؤكد محللون أن هذا الأمر مثال على كيفية قيام الدول العظمى المنبوذة من الولايات المتحدة وأوروبا بإعادة تشكيل شبكات التجارة بسرعة في اقتصاد عالمي يبدو أنه مهيأ للانقسام إلى كتل متنافسة.
وتتجه روسيا وإيران تحت ضغط هائل من العقوبات نحو بعضهما البعض عبر الممر البالغ طوله 3 آلاف كيلومتر، وكلاهما يتجه نحو الشرق أيضا. والهدف هو حماية تجارتهما من التدخل الغربي وبناء روابط جديدة مع الاقتصادات العملاقة وسريعة النمو في آسيا.
وتقول ماريا شاجينا الخبيرة في العقوبات والسياسة الخارجية الروسية في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية ومقره لندن لوكالة بلومبيرغ “يتعلق الأمر بإنشاء سلاسل إمداد مقاومة للعقوبات على طول الطريق”.
وسيسمح الممر التجاري الناشئ بقطع الآلاف من الكيلومترات عن الطرق الحالية وفي نهايته الشمالية يوجد بحر آزوف الواقع بين قوسين من شبه جزيرة القرم والساحل الجنوبي الشرقي لأوكرانيا بما في ذلك ميناء ماريوبول ومصب نهر الدون.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، قال الرئيس فلاديمير بوتين، مدرجا مكاسب بلاده من الحرب في أوكرانيا، إن بحر آزوف “أصبح بحرًا داخليا لروسيا”.
ومن هناك تمتد شبكات الأنهار والبحر والسكك الحديد إلى المحاور الإيرانية على بحر قزوين وفي النهاية المحيط الهندي. كما أشار بوتين إلى أهمية تلك الغاية من الممر.
وأثناء منتدى اقتصادي في سبتمبر الماضي، شدد بوتين على ضرورة تطوير البنية التحتية للسفن والسكك الحديد والطرق ما “سيوفر للشركات الروسية فرصا جديدة لدخول أسواق إيران والهند والشرق الأوسط وأفريقيا وسيسهل الإمدادات من هذه البلدان في المقابل”.
وتقدر شاجينا أن روسيا وإيران تستثمران ما يصل إلى 25 مليار دولار في ممر التجارة الداخلية، مما يساعد على تسهيل تدفق البضائع التي يريد الغرب إيقافها.
وقالت “يلعب البلدان لعبة القط والفأر ويستكشفان جميع الثغرات لنقل المنتجات والأسلحة المحظورة”.
وهذا يثير قلق الولايات المتحدة وحلفائها، حيث يسعون لمنع نقل الطائرات دون طيار الإيرانية وغيرها من الإمدادات العسكرية التي يقولون إنها تساعد في حرب روسيا في أوكرانيا.
وقال جيمس أوبراين، كبير مسؤولي العقوبات في إدارة الرئيس جو بايدن، بعد إعلان عقوبات جديدة الأسبوع الماضي تستهدف مسؤولين بشركة السكك الحديد الروسية إنها “منطقة نراقبها بعناية سواء هذا المسار أو العلاقة الإيرانية – الروسية بشكل عام”.
وأضاف “نحن قلقون من أي جهد لمساعدة روسيا على التهرب من العقوبات وإنه من المهم تسليط الضوء عليها لمحاولة إظهار للعالم أنهم لا يستطيعون الاختباء”.
ويرى روبرت مالي مبعوث إدارة بايدن في إيران أن أي ممر تجاري جديد يحتاج إلى تمحيص، كجزء مما أصبح على رأس أولوياته وهو وقف شحنات الأسلحة بين الدول.
وبالإضافة إلى أي تجارة للأسلحة بين الدولتين، هناك أسباب اقتصادية مقنعة لطريق العبور الجديد. وكانت السفن التي تبحر في نهري دون وفولغا تتاجر تقليديا في الطاقة والسلع الزراعية، حيث إيران هي ثالث أكبر مستورد للحبوب الروسية، لكن النطاق مهيأ للتوسع.
وأعلن البلدان عن مجموعة من الصفقات التجارية الجديدة التي تغطي البضائع بما في ذلك التوربينات والبوليمرات والإمدادات الطبية وقطع غيار السيارات. كما تزود روسيا الوقود النووي ومكونات المفاعل الإيراني في بوشهر.
وتحتاج روسيا إلى تعويض الانهيار المفاجئ لعلاقاتها التجارية مع أوروبا، التي كانت قبل الحرب أكبر شريك تجاري لها، فضلا عن إيجاد حلول للعقوبات.
ويقول نيكولاي كوزانوف خبير الخليج في جامعة قطر الذي عمل دبلوماسيا لروسيا في طهران بين عامي 2006 و2009 “مع إغلاق شبكات النقل الأوروبية، فإنها تركز على تطوير ممرات تجارية بديلة تدعم تحول روسيا إلى الشرق”.
وأضاف “يمكن فرض ضوابط على الطرق البحرية، لكن من الصعب مراقبة الطرق البرية، ويكاد يكون من المستحيل تعقبها جميعا”.
وهناك الكثير من العقبات، وتنفق كل من روسيا وإيران بشكل كبير للتغلب عليها. وتعمل موسكو على وضع اللمسات الأخيرة على القواعد التي من شأنها أن تمنح السفن الإيرانية حق المرور على طول الممرات المائية الداخلية على نهري الفولغا والدون، وفقا لوكالة الأنباء البحرية الإيرانية.
وتُظهر بيانات حركة السفن أن ما لا يقل عن 12 سفينة إيرانية، بعضها تديره مجموعة خطوط الشحن التابعة لطهران، وهي تبحر في المياه بين ساحل بحر قزوين في البلاد وموانئ نهر الفولغا الرئيسية.
وأفادت وكالة أنباء “العمل” الإيرانية شبه الرسمية الشهر الماضي بأن شركة إيرسيل الإيرانية استثمرت 10 ملايين دولار في ميناء على طول نهر الفولغا. والهدف هو مضاعفة سعة الشحن في ميناء سوليانكا في مدينة أستراخان الروسية إلى 85 ألف طن شهريا.
وداخل حدودها، تضخ إيران الأموال في المحطات حيث يمكن نقل البضائع من السفن والسكك الحديد التي تمر عبر البلاد من بحر قزوين إلى الخليج العربي.
كما تعمل على توسيع شبكة السكك الحديد التي تمتد بالفعل على حوالي 16 ألف كيلومتر وهي جزء من قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
وتتنقل الوفود التجارية بين إيران وروسيا بوتيرة متزايدة والتجارة آخذة في الارتفاع أيضا. وقد ارتفعت بمقدار النصف تقريبا خلال شهر أغسطس الماضي. ومن المحتمل أن يتجاوز الرقم السنوي 5 مليارات دولار في القريب العاجل.
وقال سيرجي كاتيرين رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية في مؤتمر عُقد في طهران الشهر الماضي إن هناك “طريقا واضحا” للوصول إلى 40 مليار دولار بمجرد إبرام اتفاقية التجارة الحرة.
وبالنسبة إلى إيران أصبح المحور أكثر إلحاحا وسط تعثر الجهود لاستعادة اتفاق 2015 مع القوى العالمية، والذي رفع العقوبات مقابل فرض قيود على البرنامج النووي للبلاد.
ويقول المسؤولون الإيرانيون إنهم يركزون بشكل كامل على ما يسمونه بـ”المحور الشرقي”، أي إلغاء أي خطط لإحياء العلاقات الاقتصادية مع أوروبا والسعي بدلا من ذلك إلى تنفيذ عدد كبير من اتفاقيات التجارة والطاقة مع روسيا والصين ودول آسيا الوسطى.
وإلى حد كبير تحت رادار الغرب، كانت هناك جهود متضافرة جارية منذ سنوات لربط تلك الأراضي الأوراسية بأكملها معا. والصين وروسيا عضوان بالفعل في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي هيئة اقتصادية – أمنية تجعل إيران العضو التاسع فيها.
وتقترب كل من الصين وإيران من الحصول على عضوية في الاتحاد الاقتصادي – الأوراسي، مما سيجعل التجارة الحرة عبر الدول ممكنة.
وثمة مؤسسة أخرى تربط الاقتصادات في المنطقة وخارجها وهي مجموعة البريكس، التي أسستها كل من البرازيل وروسيا والهند والصين، وهي تشمل الآن أيضا جنوب أفريقيا وتستعد للتوسع أكثر.
وبالنسبة إلى كل من روسيا وإيران، تعد الهند نقطة اتصال حاسمة في الشبكات التي يحاولان بناءها. وذكرت وكالة أنباء “مهر” شبه الرسمية الشهر الماضي أن أول شحنة من الحبوب الروسية تبلغ 12 مليون طن متجهة إلى الهند قد عبرت إيران بالفعل.
ويمكن أن تزداد التدفقات التجارية إذا تمكنت إيران من ربط مجمع ميناء تشابهار غير المكتمل والذي تأخر كثيرًا على المحيط الهندي، وهو مشروع استثمرت فيه الهند بشبكة قطارات المسافات الطويلة وهو غير مشمول بالعقوبات الغربية.
ويقول مالي “إذا تورط أي كيان في انتهاك عقوباتنا فيما يتعلق بمساعدة روسيا، أو أي من المجالات الأخرى التي تمت فيها معاقبة إيران، فسيكونون أيضًا عرضة للعقوبات”.
ويوضح ذلك ما قد يكون أكبر تهديد للمغامرة الروسية – الإيرانية للتهرب من العقوبات، وفقًا لبارات جوبالسوامي، المدير التنفيذي لشركة ديستريكت الأميركية للاستشارات.
ويرى محللون أن النجاح أو الفشل خارج عن سيطرة البلدين نفسيهما، وسيتوقف الأمر على ما إذا كانت الدول الأخرى، من الهند إلى الشرق الأوسط التي حثتها الولايات المتحدة وحلفاؤها جميعا على الامتثال للعقوبات ستوافق على القيام بذلك أو تختار تحدي الضغط.
وقال جوبالسوامي “من أجل بناء مثل هذه البنية التحتية واستخدامها واستدامتها، لن تحتاج فقط إلى تعاون كل من روسيا وإيران، ولكن أيضا إلى جميع الدول الأخرى التي تشكل جزءًا من هذا الممر”.
وأضاف “أي تغيير في الظروف الجيوسياسية أو العلاقات بين هذه الدول سيؤثر على نتيجة الممر التجاري”.