«لم يعد هناك من حلول». بهذه العبارة، أعلن وزير الصحة العامة، فراس أبيض، خروج حليب الأطفال (حليب الرُّضَّع من صفر حتى سنة رقم 1 ورقم 2) من الدعم، مختتماً بذلك آخر مراحل الدعم. هكذا، تحرّر هذا القطاع من «عبء» دعم مصرف لبنان، الذي لم يؤدّ خلال سنوات الأزمة سوى إلى انقطاع الحليب، واضطرار الناس لشرائه من السوق السوداء بأسعار كانت تفوق الدعم بأضعاف.
غير أن هذا الخروج من الدعم لا يعني أن الأمور عادت إلى طبيعتها التي كانت قبل الأزمة، وإن كان الكثيرون يتوقعون ذلك، فالعبور إلى مرحلة ما بعد الدعم دونه هاجسان أساسيان: أوّلهما تخطي أسعار معظم أنواع عبوات الحليب ما هو في مقدور الكثير من العائلات، وثانيهما الإجابة عن السؤال الوجودي: هل يعني رفع الدعم أن الحليب سيتوفر؟
فوق قدرة الأهالي
في الشق الأول من المرحلة الجديدة، ثمة معضلة أساسية تتعلق بقدرة العائلات على توفير الحليب لأطفالها، خصوصاً في ظلّ غلاء بعض أنواع الحليب، المتخصّصة منها، والتي لامست عبوة الـ900 غرام الـ790 ألف ليرة، فيما لم تقلّ عبوة الـ400 غرام عن 350 ألف ليرة. وبحسبة بسيطة وفي أسوأ الحالات، يبلغ المعدل الوسطي للاستهلاك الأسبوعي لعبوات حليب الرضع ما يقرب من عبوتين، ما يعني ثماني عبوات شهرية، وهذا يعني مليونين و800 ألف ليرة (عبوة 400 غرام) وبحدود 6 ملايين و300 ألف ليرة (عبوة 800 ـــ 900 غرام)! وهي أضعاف ما كان يدفعه المواطنون في حضرة الدعم، فيما تبتعد بأشواط كثيرة عما كان عليه الواقع ما قبل الأزمة، حيث كانت الثمانية دولارات توازي 12 ألفاً، فيما هي اليوم بحدود 350 ألفاً أو ما يزيد، تبعاً لتحركات غير ثابتة لسعر صرف الدولار الأميركي.
لم تعد هذه الأرقام في متناول معظم المواطنين، الذين بالكاد يحصّلون لقمة عيشهم. ولهذا، يجد الكثيرون أنفسهم أمام خيارات أحلاها مرّ، كاللجوء إلى حليب الأطفال غير المخصّص للرضع أو الرضاعة الطبيعية. بموازاة ذلك، أعلن الوزير أبيض عن تعاون وزارة الصحة العامة مع بعض الجهات الدولية «للعمل على إيجاد آلية من شأنها دعم أو تأمين الحليب لغير المقتدرين»، غير أن هذا الأمر يبقى رهناً بما قد تؤول إليه المفاوضات.
من المصرف إلى المؤشر
في الجزء الآخر من الأزمة، يتخوّف الصيادلة، والناس أيضاً، من أن يكون للقرار مفاعيل. وإن كان الصيادلة يعوّلون على الوقت لتوفر الحليب، خصوصاً أن «الأمور لا تظهر بعد يوم أو يومين من قرار رفع الدعم، وإنما قد نرى ذلك في غضون شهر ريثما تتحضر عمليات الاستيراد»، إلا أن ثمة خوفاً من أن يكون القرار مجرّد هروب من الواقع.
بالنسبة إليهم، سريان القرار ليس بهذه السهولة، إذ ليس بالضرورة أن يكون رفع الدعم مقدّمة لتوفر الحليب في رفوف الصيدليات أقلّه، وخوف الصيادلة ألا يكون ذلك الانتقال من «تحت الدلفة لتحت المزراب». فإن كان عدم توفر الحليب سابقاً مردّه إلى «حكم المصرف» وتأخر معاملات الدعم أشهراً طويلة، فقد بات اليوم الحليب ـ المرفوع عنه الدعم ــ مرهوناً لمؤشر الأسعار الصادر عن وزارة الصحة العامة، إذ إنه من المفترض أن يخضع حليب الرضع، كالدواء، للمؤشر الأسبوعي الذي تصدره الوزارة، أو كلما دعت الحاجة، وهنا «سندخل في المعمعة نفسها»، ولا سيما مع الفوارق الظاهرة ما بين مؤشر الوزارة وسعر الدولار في السوق السوداء. ولذلك، فمنذ أول من أمس «توقفت بعض الشركات عن الفوترة»، يقول أحد الصيادلة، مشيراً إلى أن «شركتين رفضتا تسجيل إحدى الطلبيات أول من أمس وأمس».
عدم استقرار سعر صرف الدولار، وعدم لحاق مؤشر الوزارة به، يُعدّان أمراً أساسياً قد يحول دون توفر الحليب، خصوصاً مع اعتبار أن «الموزّعين والمستوردين تجار بالدرجة الأولى ولن يقبلوا الخسائر»، يقول أحد الصيادلة. ويعطي مثالاً في هذا السياق عن صدور مؤشر أول من أمس للدواء على سعر 44 ألفاً للدولار الأميركي، فيما لامس دولار السوق السوداء الـ47 ألفاً. ثلاثة آلاف ليرة دفعة واحدة لن يكون معها الوكيل أو المستورد متسامحاً إلى الدرجة التي يقبل فيها الخسارة. يعني «إذا ما كان المصرف، بيكون سعر الصرف»، يقول أحد الصيادلة متهكّماً.
ليست أزمة الحليب آنية، وقد وصلت وزارة الصحة إلى القرار النهائي القاضي برفع الدعم عنه بعدما انعدمت الحلول، بحسب أبيض. ويبلغ عمر هذه المشكلة ثلاث سنوات، وتحديداً منذ بداية الأزمة الاقتصادية والمالية والتي فرضت الخضوع لحلقة الدعم، التي أسهمت في تأجيج المشكلة، حتى وصل الأمر إلى انقطاع معظم أنواع حليب الرضع، مع الوصول إلى قناعة أن «كل مدعوم مفقود حتماً»، على ما يقول أحد الصيادلة. وهي بذلك تضاف إلى الأزمة المستمرة في الدواء والتي تشتد كلما علا الفارق ما بين دولار الدواء ودولار السوق.