يوماً ما سيذكر التاريخ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على أنه الشخصية الاكثر إصداراً للتعاميم المتناقضة والأكثر تسبّباً بالتفاوتات في أسعار الصرف والأكثر إيذاءً لذوي المداخيل المحدودة والأكثر إضراراً بالاقتصاد ككل. فما بين التعميم والتعميم، تعميم آخر يدحضه لا بل ينسفه.
أمس، “فطّس” سلامة آخر متنفّس للبنانيين. فمن كان منهم ينتظر بعض مئات الدولارات من ابن أو ابنة أو شقيق أو شقيقة أو قريب من المنتشرين في مختلف أصقاع الأرض علّه يعتاش منها، أفقده “الحاكم” آخر أمل لديه بعدما أفقده قبلها الثقة كلّيّاً بالنظام المصرفي.
في الواقع لا يستند تعميم سلامة الأخير الى أي منطق اقتصادي. من هنا بات من المؤكد أن سياسته النقدية باتت قائمة على قهر الناس وإخضاعهم لكل أشكال الذلّ و”البهدلة” بدءاً من أمام أجهزة الصراف الآلية مروراً بكاونترات المصارف واستنسابيتها وصولاً إلى إقفال أبوابها نهائياً أمامهم. بقي للناس متنفس أخير هو المؤسسات المالية غير المصرفية فأتى “الحاكم” وانقضّ عليه وعلى “حوالات الناس” وما تؤمنها لهم من “فتات الدولارات”.
منذ فترة أصدر مصرف لبنان تعميماً يلزم فيه المؤسسات المالية غير المصرفيّة باعتبار الأموال المحوّلة عبرها كـ fresh money وبالتالي أن تسلمها الى العملاء بعملة التحويل. أمس نُسف التعميم الأول ليقوم على أنقاضه تعميم ثانٍ يلزم المؤسسات المالية غير المصرفية التي تقوم بعمليات تحويل نقدية بالوسائل الالكترونية أن تسدد قيمة أي تحويل وارد اليها بالعملة الاجنبية بالليرة اللبنانية وفقاً لسعر السوق، على أن تبيع من الوحدة الخاصة المنشأة في مديرية العمليات النقدية لدى مصرف لبنان العملات النقدية الأجنبية.
لا يحتاج التعميم الجديد إلى الكثير من التحليل، فمن ناحية يعترف البنك المركزي صراحة بموجبه بنضوب احتياطياته، ومن ناحية ثانية يؤكد الإمعان في سياسة التطاول على ودائع الناس ومدّخراتهم وجنى أعمارهم وصولاً اليوم إلى “قرصنة” الدولارات التي لا تزال تدخل إلى لبنان من الخارج.
وإذ لم يتعدّ مجمل التحويلات عبر المؤسسات المالية غير المصرفية العام 2019 نسبة الـ10% من عجز ميزان المدفوعات، كان من المتوقع أن يشهد هذا الرقم ارتفاعاً قياسياً خلال العام الجاري بعد أزمة المصارف، بحيث كشفت مصادر معنية بهذا الملف لـ”نداء الوطن” أنّ حجم الدولارات الآتية من الخارج عبر هذه المؤسسات يبلغ نحو مليار دولار سنوياً، في حين أنّ المعنيين في قطاع شركات ومؤسسات التحويلات المالية الالكترونية لا يزالون يتدارسون سبل ترجمة التعميم الجديد عملياً لناحية كيفية التعامل مع سعر الصرف في السوق، خصوصاً وأنّ المنصّة الإلكترونية التي سيطلقها مصرف لبنان لتحديد سعر الصرف لم تبدأ عملها بعد، ولا يمكن للمؤسسات المالية التزام سعر صرف الدولار عند حدود 2600 ليرة الذي طبقته المصارف بينما الدولار في السوق تجاوز عتبة الـ3000 ليرة، وبالتالي من المرجح أن تسود الاستنسابية راهناً في تطبيق التعميم الجديد بين مؤسسة وأخرى في تحديد سعر صرف الدولار المحوّل من الخارج إلى حين المباشرة بعمل المنصة.
إذاً، وعلى غرار غيره من التعاميم، يضرب تعميم الأمس أصحاب الجيوب الصغيرة الذين كانوا يستفيدون من التحاويل المحدودة بالعملة الأجنبية. تمّ ذلك في أسوأ وقت ممكن، فالمصارف مغلقة منذ نحو شهر ونصف كما وأن المبالغ التي يمكن أن تحوّل ضئيلة لدرجة لا يمكنها أن تغيّر في موازين اللعبة.