إقفال أبواب الاستدانة الداخلية والخارجية، ووقف الاعتماد على «المركزي» لتمويل عجز الموازنة بـ»عملياته المالية غير التقليدية»، دفع الحكومة إلى النكش في جيوب المكلفين. فالزيادات الهائلة المقرة والمنتظرة على الرواتب والاجور وبقية المتطلبات الاصلاحية، ستمول بحسب «خطة التعافي» من الضرائب والرسوم. باختصار، ما ستعطيه الدولة بيمينها ستأخذه أضعافاً مضاعفة بيسارها.
ستركز تدابير السياسة الضريبية بحسب الخطة المقرة في مجلس الوزراء على توسعة القاعدة الضريبية وزيادة الرسوم تدريجياً، بما فيها: زيادة معدلات الضريبة الانتقائية على المشروبات الكحولية والمشروبات السكَّرية وأصناف من السيارات. الزيادة التدريجية للنسبة القانونية لضريبة القيمة المضافة من 11 إلى 15 في المائة على مدى عامين. تعزيز ضريبة العقارات والممتلكات المبنية.
العدالة الضريبية مفقودة
قبل المجادلة بالآثار السلبية لزيادة الضراب في مرحلة الانكماش الاقتصادي، والاثبات بالارقام من تجربتنا الذاتية أن رفع الضرائب يؤدي إلى تقليص الوعاء الضريبي، فان هذه الضرائب تفتقد للعنصر الاهم في فلسفتها وهو: العدالة. فبعظمها ضرائب غير مباشرة، كضريبة القيمة المضافة التي تساوي بين الاثرياء والاشد فقراً، وجميعها تفرض على الاقتصاد الشرعي الملتزم والمؤمن بقيام الدولة. فالاقتصاد الموازي يرتبط بعلاقة طردية مع زيادة الضرائب، فـ”كلما ارتفعت الاخيرة كلما نمت وتوسعت القطاعات غير الشرعية”، بحسب رئيس تجمّع سيدات ورجال الأعمال اللبنانيين (RDCL) نيكولا أبو خاطر، و”ذلك طبقاً للقول الفرنسي “Trop d’impôt tue l’impôt”، الذي يترجم “الكثير من الضرائب يقتل الضرائب”.
فالمؤسسات الشرعية والمواطن الصالح اللذان أصبحا يشكلان الاقلية، لم يعد بمقدورهما تمويل متطلبات الدولة المتزايدة. وقد جُرّب هذا النظام لمدة 30 عاماً وأثبت فشله. حيث ارتفعت معدلات التهرب الجمركي والضريبي وزاد عدد المواطنين والمؤسسات الذين لا يسددون أبسط فواتيرهم الشهرية كالكهرباء، مع كل زيادة كانت تلحق بالضرائب. ولا سيما أن هذه الزيادات لم تترافق مع إصلاحات بنيوية في بنية الدولة المالية، ولم يتم التشدد بملاحقة المتهربين منها. ورغم تجريب المجرب، فما زالت الحكومة مصرة، بحسب أبو خاطر، على اعتماد النهج نفسه الذي أثبت فشله، و”قد وصلنا إلى مرحلة فقدنا فيها القدرة على إعادة النهوض عبر الاعتماد على تمويل القطاعات الشرعية لبلد منهوب”.
تنامي اقتصاد الظل
تشير تقديرات الامم المتحدة إلى أن “التهرب الضريبي فاق 30 في المئة في عام 2018”. ومن المتوقع بحسب التطورات أن تكون هذه النسبة ارتفعت إلى أكثر من 50 في المئة بعد بدء الانهيار في نهاية العام 2019. ما يعني عملياً، أن هناك 10 مليارات دولار تنتج ولا تدفع عليها أي رسوم أو ضرائب إذا افترضنا أن الناتج بلغ 21 مليار دولار. وبدلاً من أن يكون التركيز على مكافحة الاقتصاد الموازي لزيادة الايرادات، تتحدى الدولة “منحى لافر” الذي يظهر أن زيادة الضرائب بشكل غير منطقي وفوق “سقف التحصيل الاقصى” يؤدي إلى تراجع الايرادات وليس زيادتها”، بحسب الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني لدراسات السوق كارابيد فكراجيان؛ وهذا يعود لسببين:
الاول، تراجع نسبة الاستثمارات وأعداد المكلّفين. حيث تؤدي هذه الزيادات إلى عدم قدرة المؤسسات على الاستمرار وبالتالي تدفعها إلى الاقفال.
الثاني، زيادة التهرب الضريبي والجمركي والتحول إلى اقتصاد الظل.
عدم الجدوى من زيادة الضرائب
من الواضح أن التوجه لزيادة الضرائب أثبت فشله، وقد أظهرت دراسة أعدها “المعهد” أن رفع الحكومة للضرائب في العام 2018 لزياداة الايرادات من 16.2 تريليون ليرة إلى حدود 18.7 تريليون ليرة، أدى إلى انخفاض الايرادات المحققة إلى 16.1 تريليون ليرة. وقد أعادت الحكومة الغلطة في العام 2019، حيث رفعت الضرائب من جديد فكانت النتيجة انخفاض الايرادات المحققة إلى 15.9 تريليون ليرة.
وعليه فان الضرائب المنوي فرضها في ظل أسوأ تضخم انكماشي قد يشهده بلد، تتجاوز “سقف التحصيل الاقصى” لـ”منحنى لافر”. ويكفي بحسب فكراجيان “انعكاسات فرق سعر الصرف لتصبح أي زيادة على الضرائب سلبية وليست إيجابية”. وبرأيه فان “الضرائب التي تعتزم الحكومة فرضها تنقسم إلى نوعين: الاول، على الارباح. والثاني هي ضرائب توجيهية بهدف تطبيق سياسة معينة، مثل الضريبة الجمركية. والاخيرة ستكون لها نتائج بالغة السلبية لانها لا ترفع فقط الفاتورة على المستهلك الفقير، إنما تمنع القطاعات الانتاجية من النمو، وتحرمها من القدرة على المنافسة في الاسواق الخارجية. ولا يعود من بعدها للحوافز المالية الاصطناعية التي تعطى لمؤسسات الانتاج بهدف تنشيطها أو حتى دعمها أي نفع. هذا عدا عن أن الضريبة المرتفعة على الافراد وقطاعات الانتاج سـتبعد المستثمرين، وتدفع بالمنتج اللبناني إلى الخروج من السوق باتجاه البلدان التي توفر بيئة أعمال سليمة”.
نظام ضرائبي تنازلي
المشكلة بالسياسة الضريبية في لبنان لا تتعلق بحجمها فقط إنما بنوعها. فلبنان يحتل المرتبة 117 من أصل 158 مرتبة في الضرائب التصاعدية، بحسب ما استنتج المقرر الخاص للامم المتحدة المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الانسان أوليفييه دي شوتر. فالنظام الضريبي التنازلي المعتمد يدفع الدولة لاستمداد جزء كبير من ايراداتها العامة من الضرائب غير المباشرة، ما يظهر مدى تحيز النظام الجبائي ضد الاشخاص ذوي الدخل المنخفض. وعليه يرى التقرير أن “رفع معدلات ضريبة القيمة المضافة في جميع المجالات أمر غير حكيم، لانه سيضر بشدة بأولئك الذين يعيشون في قاع الاقتصاد وسيزيد انكماش الطلب”.
الحل موجود
بدلاً من زيادة الضرائب يوصي تقرير الامم المتحدة لبنان باجراء إصلاح جبائي تصاعدي جدي في أطار خطة الانعاش الاقتصادي. خصوصاً انه لا يتم تحصيل سوى 11 في المئة من الايرادات الضريبية من خلال نظم تصاعدية. كما كان من الممكن تحصيل ما يقدر بـ12.8 مليار دولار بحلول عام 2020 لو تم فرض ضريبة على الثروة بنسبة 2 في المئة في عام 2010. وهذا طبعاً ما لم ولن يحصل.
صرخات قطاع الاعمال في الداخل بمكافحة التهرب الضريبي والجمركي، ومناجاة الخارج اعتماد نظام ضريبي عادل لا يرددهما إلا الصدى. فالحكومة في خطتها للتعافي تقر الزيادات على الضرائب مع التعهد بالاصلاح. وكما جرت العادة ستهمل الاخيرة، وتبقى الضرائب ترهق الطبقات الفقيرة بشكل خاص والاقتصاد بشكل عام. لا سيما إذا ما أضيفت على الاجراءات النقدية التي تقضي بشطب نحو 70 مليار دولار من حقوق المودعين. وما على المواطنين إلا تعليق آمالهم على البرلمان لاسقاط الخطة وفرض شروط أكثر عدالة.