تبدو الدول بمؤسساتها الرسمية ومصارفها المركزية في سباق محموم لإصدار عملات رقمية رسمية محكومة من ناحية بالتباري التكنولوجي، ومن ناحية أُخرى بمحاولة الحد من انتشار فيروس كورونا، الذي تُعد العملات الورقية من الوسائط الأساسية لنقله بين البشر. فأين أصبحت هذه الجهود؟ وما هي الدوافع والمنافع والمخاطر؟
أحدث ما برز على هذا الصعيد اليوم، الثلاثاء، إعلان البنك المركزي الروسي أنه يدرس إصدار روبل رقمي إلى جانب الروبل النقدي وغير النقدي حاليا لتسهيل مدفوعات للأفراد والشركات، لافتا إلى أن العملة الرقمية الجديدة ستحتاج إلى بنية تحتية جديدة للمدفوعات، بما يعزز قوة نظام المدفوعات في نهاية المطاف.
وذكر البنك في تقرير يمهد السبيل لبحث الأمر، أن “الروبل الرقمي، في حال تطبيقه، سيجمع بين مزايا وخصائص العملة النقدية وغير النقدية”. وقال إنه يدرس إمكانيات وآفاق الروبل الرقمي، وإن من السابق لأوانه وضع جدول زمني محدد لإطلاق المشروع.
عملات صينية
وسبق ذلك، يوم الجمعة الماضي، الإعلان أن البنك المركزي الصيني يصدر عملات رقمية بقيمة 10 ملايين يوان (1.5 مليون دولار)، لـ500 مستخدم سيجري اختيارهم عشوائيا، في خطوة يعترها البعض أول اختبار عام تجريه البلاد لنظام الدفع الرقمي لليوان.
وتأتي حملة “بنك الشعب الصيني” (المركزي)، في الوقت الذي تتسابق فيه مصارف مركزية في أنحاء العالم لإصدار عملاتها الرقمية لتحديث أنظمة المدفوعات وكذلك درء منافسة محتملة من عملات مشفرة تصدرها جهات خاصة.
واعتبارا من الجمعة الفائت، أصبح بمقدور أي شخص في مدينة شنتشن، جنوب الصين، التقدم بطلب للانضمام إلى البرنامج عبر أكبر 4 بنوك بالبلاد، لكن البعض فقط سيفوزون بمبلغ 200 يوان عبر قرعة، بحسب الحكومة المحلية والبنوك. ويمكن للفائزين استخدام العملة الرقمية في 3389 منفذا للبيع بالتجزئة، من بينها محطات وقود تابعة لـ”سينوبك” ومتاجر “وولمارت” ومراكز “سي.آر فانغارد” التجارية وفنادق “شانغريلا”.
كينجي أوكامورا، أكبر دبلوماسي ياباني معني بالشؤون المالية، قال، الخميس الفائت، إن الصين تسعى للفوز بميزة الريادة في مساعيها لتطوير عملة رقمية.
7 مصارف مركزية تسرّع خطاها
والجمعة الماضي أيضاً، شرعت مجموعة من 7 بنوك مركزية كبرى، تشمل مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي، في تحديد الشكل المحتمل الذي ستبدو عليه عملة رقمية للمساعدة في اللحاق بدور ريادي للصين والتفوق على مشاريع خاصة، على غرار عملة “ليبرا” المستقرة التابعة لـ”فيسبوك”.
وقالت البنوك المركزية وبنك التسويات الدولية إن الملامح الأساسية يجب أن تشمل المتانة والإتاحة بسعر منخفض أو بدون كلفة، والمعايير المناسبة والإطار التشريعي الواضح والدور الملائم للقطاع الخاص.
جون كونليف، نائب محافظ بنك إنكلترا المركزي ورئيس لجنة المدفوعات في “بنك التسويات الدولية”، قال إن تنامي المدفوعات بغير النقد منذ فرض إجراءات العزل العام لمكافحة جائحة كورونا يسرع الكيفية التي يمكن بها للتكنولوجيا أن تغير أشكال المال.
وبدأت البنوك المركزية تفحص بشكل وثيق العملات الرقمية بعدما أعلنت شركة “فيسبوك”، العام الماضي، عن عملتها “ليبرا”، التي لم تُطلق بعد والتي ستكون مدعومة بمزيج من العملات الرئيسية والديون الحكومية. ومنذ ذلك الحين عدل الكيان الذي يقف وراء “ليبرا” خططا، ويأمل حاليا في إطلاق عدة “عملات مستقرة” مدعومة بعملات منفردة.
وقال كونليف إن البنوك المركزية بحاجة إلى المواكبة لتجنب قيام القطاع الخاص بسد فجوات في المدفوعات بطرق غير مناسبة.
وبجانب مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي)، و”بنك إنكلترا”، فإن البنوك السبعة التي تحالفت مع “بنك التسويات الدولية” تشمل البنك المركزي الأوروبي والبنك الوطني السويسري وبنك اليابان المركزي، لكن ليس “بنك الشعب الصيني”.
يورو رقمي
وفي الثاني من الشهر الجاري، قال فابيو بانيتا، عضو مجلس البنك المركزي الأوروبي، إنه يجب على البنك الإعداد لإصدار يورو رقمي يكمل الأوراق المالية “إذا ومتى” اقتضت الضرورة.
وفي دراسة نُشرت في ذلك اليوم، قال المركزي الأوروبي إن اليورو الرقمي سيساعد في حال تخلي المواطنين عن النقد وسيطرة صور خارجية للأموال الإلكترونية، أو في حال عدم توافر بقية سبل الدفع. وقال بانيتا، في منشور بمدونة صاحب الدراسة: “يجب أن نكون مستعدين لإصدار يورو رقمي إذا ومتى جعلت التطورات حولنا هذا ضروريا”.
ومنح المركزي الأوروبي نفسه حتى منتصف العام المقبل ليكي يقرر ما إذا كان سيمضي قدما في المشروع أم لا. والمشروع مفتوح حاليا للتشاور العام.
وأمس، الإثنين، أطلق المركزي الأوروبي مشاورات عامة واختبارات سعيا لاتّخاذ قرار بشأن تأسيس “يورو رقمي” لدول العملة الموحدة الـ19. وتأتي الخطوة في وقت يسرّع فيه تفشي كوفيد-19 التخلي عن الأوراق النقدية، بينما يراقب صانعو السياسات بقلق صعود عملات خاصة مشفّرة على غرار “بيتكوين”.
ما هو اليورو الرقمي؟
سيكون اليورو الرقمي أو الافتراضي نسخة إلكترونية من أوراق اليورو النقدية وقطعها المعدنية، وستكون عملة رسمية يكفلها البنك المركزي الأوروبي.كما ستسمح لأول مرة للأفراد بالإيداع مباشرة لدى البنك المركزي الأوروبي. وقد يكون ذلك أكثر أمانا من إيداع الأموال لدى المصارف التجارية التي قد تفلس أو الاحتفاظ بالأوراق النقدية التي قد تتعرّض للسرقة أو الضياع.
وعلى غرار النقود، يمكن الاحتفاظ بالأموال خارج المنظومة المصرفية، في “محفظة رقمية” مثلا. ومن شأن ذلك أن يسمح للأفراد والشركات بالقيام بعمليات الدفع اليومية “بطريقة سريعة وسهلة وآمنة”، بحسب ما أفاد البنك المركزي الأوروبي عندما نشر تقريرا بشأن الأموال الافتراضية هذا الشهر.
وأكد المصرف أن اليورو الرقمي سيكون “مكمّلا للنقود ولن يحل مكانها”. ويمكن إصدار أو تحويل مبالغ اليورو الرقمي باستخدام تقنية سجلات الحسابات المعروفة باسم “بلوك تشين” أو “سلسلة الكتل”، وهي قاعدة بيانات عامة لا يمكن تنقيحها، وهي ذاتها التي تعتمد عليها العملات المشفرة على غرار “بيتكوين”.
لماذا الآن؟
وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية، عزز تفشي كوفيد-19 عمليات الدفع الإلكترونية في ظل تجنّب المستهلكين الأوراق النقدية والقطع المعدنية خشية انتقال العدوى.
وحتى في ألمانيا، حيث يقال إن الأوراق النقدية لا تزال تتسيّد المشهد، يتوقع أن ينفق الزبائن لأول مرة هذا العام المزيد من الأموال باستخدام البطاقات مقارنة بالنقود، بحسب تقرير صدر أخيرا عن شركة “يورومونيتور إنترناشونال” لأبحاث السوق.
وعلى غرار مصارف مركزية أخرى حول العالم، يخشى البنك المركزي الأوروبي كذلك من أن يتخلّف عن ركب العملات الافتراضية التي أصدرتها جهات خاصة أجنبية، على غرار “بيتكوين”، أو “ليبرا”، العملة التي ينتظر أن تطلقها شركة “فيسبوك”.
وفي حال تحوّل عدد كبير من المقيمين في منطقة اليورو لاستخدام عملات افتراضية تعمل خارج نطاق البنك المركزي الأوروبي، فقد يؤثر ذلك على مدى فعالية تدابير سياساته النقدية.
وقال خبير الاقتصاد لدى شركة “بكتيت لإدارة الثروات” فريدريك دوكروزيت، لوكالة فرانس برس، إن خطة فيسبوك لتأسيس عملة “ليبرا” “سرّعت وتيرة تفكير البنوك المركزية” في المسألة.
ما هي المخاطر؟
قد يتجنّب الناس فتح حسابات تقليدية لصالح تلك الرقمية، ما من شأنه أن يضعف المصارف التجارية في منطقة اليورو. وقد تكون المخاطر أكبر في أوقات الأزمات عندما يفضل المدخرون الهرب إلى الأمان الذي يوفره “اليورو الرقمي” وما يدفع المتعاملين بالتالي لسحب أموالهم من المصارف التقليدية.
ولتجنّب ذلك، قد يقترح البنك المركزي الأوروبي الحد من مبالغ اليورو الرقمية التي يمكن لكل شخص امتلاكها أو استبدالها. كما سينظر البنك المركزي الأوروبي في المسائل المرتبطة بالخصوصية وضمان عدم استخدام اليورو الرقمي في عمليات غسل الأموال عندما يقيّم إيجابيات وسلبيات إطلاق العملة الافتراضية في الأشهر المقبلة.
ما هي الجهات الأخرى التي تقوم بذلك؟
تعد العملات الرقمية الصادرة عن جهات خاصة متقلبة للغاية. فمثلا، خسرت “بيتكوين” نصف قيمتها تقريبا منذ بلغت أعلى سعر لها أواخر العام 2017 عند 20 ألف دولار (17030 يورو). لكن في السنوات الأخيرة، بدأت المصارف المركزية تنظر في مسألة طرح أموالها الافتراضية الخاصة بها والتي تعرف بـ”عملة البنك المركزي الرقمية” كبديل ثابت وخال من المخاطر.
كما سلفت الإشارة، بدأ البنك المركزي الصيني تجارب استخدام العملة الرقمية في 4 مدن في نيسان/إبريل، كما بدأ “بنك فرنسا” اختبارات مشابهة. والجمعة الماضي، أعلن “بنك اليابان” أنه سيكثّف أبحاثه في هذا المجال. كما أعلن بنك التسويات الدولية، وهو شبكة من المصارف المركزية، في يناير/كانون الثاني، تأسيس فريق عمل مكرّس للبحث في المسألة.
متى يمكن أن يبدأ استخدام العملة؟
أطلق البنك المركزي الأوروبي مشاورات تستمر لثلاثة أشهر، اعتبارا من أمس الاثنين، وسيُجري سلسلة اختبارات حول جدوى اليورو الرقمي على مدى الأشهر الستة المقبلة. ويهدف البنك المركزي لاتّخاذ قرار بحلول منتصف 2021 بشأن ما إذا كان سيطلق المشروع، بحسب ما أفاد.
لكن لا يتوقع أن يدخل اليورو الرقمي حيز الاستخدام في أي وقت قريب. وقال مصدر مطلع على المشروع لفرانس برس، إنه حتى تبصر المبادرة النور، سيستغرق الأمر “ما بين 18 شهرا و3 أو 4 سنوات”.