تعيد تركيا من جديد أزمة المياه “الصامتة” بينها وبين العراق، مع بدء أنقرة العدواني لإنجاز ملء سد أليسو المقام على نهر دجلة، وهو ما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغانفي 8 آذار/ مارس الجاري: “إن بلاده ستبدأ ملء خزان سد إليسو على نهر دجلة في يونيو/ حزيران”، وذلك على الرغم من احتجاج بغداد عندما بدأت أنقرة احتجاز المياه خلف السد لفترة وجيزة في منتصف الصيف الماضي.
تصريح أردوغان يعيد التأكيد منذ بداية هذا القرن على أهمية القرابة العضوية بين الماء والنار، فالحرائق الإقليمية والدولية المشتعلة لن تندلع اليوم على تخوم حدائق النفط فقط، بل ستمضي مندفعة على امتداد شرايين المدنيات الأولى.
ففي أجواء الصراعات على الوجود، أصبحت الأنهار في الهلال الخصيب أخطر خزان استراتيجي لإنتاج القلق، والحذر وربما لإطلاق حروب المستقبل.
ما يزيد مثل هذا الاحتمال طبيعة التكتلات والأحلاف التي ترسم مصالحها على قياس طموحاتها الإمبراطورية، ملوّحة بالحروب الطامحة للاستيلاء على أكبر قدر من مصادر الثروة والماء أهمها.
في الشرق الأوسط، وتحديداً في الهلال الخصيب، تصبح اللوحة أكثر وضوحاً. فالطورانيون الأتراك يضعون يدهم على عنق الفرات وناصية دجلة، ويشدّون الخناق شيئاً فشيئاً، بينما الصهاينة في الجنوب ينقضّون بأنيابهم الاستراتيجية على أنهار الأردن، والليطاني، وطبريا، ويقفزون باتجاه الوزاني ونهر اليرموك.
سدود في شمال المشرق العربي لقطع نسغ الحياة عن بغداد والجزيرة السورية. وأخرى في الجنوب لمصادرة ثروة لبنان وسوريا بغية إرواء عطش ملايين المهاجرين اليهود الذين جاؤوا من مختلف الجحور اللاهوتية من شرق هذا العالم وغربه بحجة جنة يهوه الموعودة.
في الشمال والجنوب لم تعد الصراعات على تسوية حدود جغرافية هنا وهناك وليست فقط على طريق تجاري أو ممر إجباري ولا على ثروة استراتيجية.
“الدواعش والنصرة” حلفاء تركيا و”إسرائيل” دخلوا على خط هذا الصراع وتمدّدوا على الأرض، قبل دحرهم في المدن العراقية والسورية.
فبعد النفط ها هم الإرهابيون ينفذون مآرب شاغليهم ويهددون بنسف السدود في كل من العراق وسوريا ويقطعون الحياة عن أبناء شعبنا من جبال كردستان وحتى لبنان وفلسطين.
عندما تدخل المياه في استراتيجية الحرب، يصبح أكيداً أن هذا الصراع ليس بدوافع الشعارات والسياسات بل بدوافع إلغاء وجود لمصلحة وجود آخر. ويدرك هؤلاء حقيقة العلاقة بين الأرض والإنسان، فعندما تموت الأرض عطشاً يذوي الإنسان عيشاً وحضارة وقوة ويفقد مبررات إيجابية الفعل والانفعال في بيئته وتموت الحضارة، إذ لا حضارة من دون تفاعل بين الإنسان والبيئة.
وعندما يحتضّر التفاعل بسبب جذب الأرض، أو جذب الإنسان، لا يبقى وطن.
الطورانيون والصهاينة يديرون اليوم عبر “داعش” و”النصرة” المراحل الجديدة من حرب المستقبل، ولا ريب في أنها مرحلة ضجت بشعارات الثورة والحرية والديمقراطية والعدالة، خصوصاً أن عدوي سوريا والعراق، تركيا و “إسرائيل” هما اليوم أكثر الجهات التي تتذرّع بالإنسانية للقضاء على الإنسان.
وبعد ذلك، ما هي استراتيجية أهم وأكبر دولتين في الهلال السوري الخصيب لمواجهة التهديد التركي القديم ـ الجديد، ولماذا استطاع أجدادنا السومريون والآشوريون والكلدانيون والآراميون والفنيقيون حفظ مياهنا قبل أكثر من أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؟ ولماذا استطاع أجدادنا منذ بدء الحضارة السومرية وحتى فترة حكم تدمر، اختراع الري وإنشاء السدود، وحفر القنوات وبناء الجداول لري الأراضي؟
الآن، مع بدء ملء سد “أليسو” التركي المقام على ضفاف نهر دجلة عادت قضية تأثيره على العراق إلى الواجهة وبقوة، لا سيما مع التحذيرات المتجدّدة للخبراء العراقيين من خطورته، حيث من المتوقع أن يؤثر سلباً على حجم الأراضي الزراعية.
هل نستغرب كثيراً ما يحدث على نهر دجلة؟.. رجب طيب اردوغان الذي أخفق، بمشروعه، في اقامة دولة الخلافة، سيعيد إقفال دجلة والفرات في وجه السوريين والعراقيين للضغط الاستراتيجي على البلدين متجاوزاً كل الأحكام القانونية الدولية التي ترعى هذا الشأن، وهو الذي ينظر الى هذين البلدين من قصر يلدز.. وحول هذا الدور الهستيري الذي يضطلع به في سوريا والعراق.. ولكن إلى متى سنبقى نعاني من ازمات بنيوية في التعامل مع لعبة الازمنة؟
نداءات الاستغاثة الرسمية العراقية تأخرت بعد تصريح أردوغان وبعد تقدير أخطار بناء السد والخسائر الناتجة عنه، التي أكدت تقارير دولية أنها تزيد على 10 مليارات دولار، ورجّحت نقص حصة العراق من مياه دجلة من 20.93 مليار متر مكعب سنوياً لتصل لنحو 9.7 مليار متر مكعب، بعد بدء تشغيل السد.
فهل هي صدفة أن يتزامن ملء السد بعد دحر “داعش” بهدف إلهاء الدولة العراقية بمسألة خطيرة كقطع نسغ الحياة عن الأراضي الزراعية؟
ما العمل يا حكام العراق؟
كان كمال اتاتورك ينظر الينا كعرب على اننا ماضون الى آخر الزمان في ثقافة الإبل!