رغم بعض الإيجابيّة التي لمسها المواطن اللبناني من تثبيت سعر الدولار على 89500 ليرة، إلا أنّ ذلك لا يعني تعافياً إقتصادياً، لا سيّما أن هذا التثبيت يحمل سلبيات عدّة على إعتبار أنه «تثبيت مصطنع» لا يستند على قاعدة إقتصادية صلبة تُمكن من النمو الإقتصادي بل تزيد من الإنكماش في ظلّ عدم وجود خطط إصلاحية وقوانين تُساعد المصرف المركزي على الإستمرار بسياسة استقرار السوق النقدي. فهل الإستقرار الحالي مجرّد وهم ستنكشف على المدى القريب «هشاشته»؟!
سعرٌ مصطنع
الباحثة في الشؤون المصرفية والنقدية د. سابين الكك تلفت إلى أنّ «الأدوات والطرق التي يعتمدها مصرف لبنان للتدخل في السوق لثبيت سعر الصرف غير مستدامة لأن ليس هناك من إنتعاش إقتصادي في البلد، والدورة الإقتصادية لا تعمل بالشكل الصحيح. كذلك، لا تُرفق الأدوات والطرق هذه بخطوات شفافة، إن كان لجهة إصدار البيانات المالية أو لجهة السياسة النقدية المتبعة. بالتالي، من وجهة نظر إقتصادية علمية يُعتبر سعر صرف الدولار الحالي مصطنعاً، إذ إن ثباته ناتج عن أدوات غير تقليدية لا تستخدمها عادةً المصارف المركزية خلال تدخلها في سوق الصرف، كما وأن تكلفة هذا التدخل غير معلنة. وطالما أن سعر النقد لا يعكس حقيقة الواقع الإقتصادي فهو يُعدّ سعراً مصطنعاً مرتفع التكلفة».
وعن إيجابيات إستقرار سعر الصرف تقول الكك خلال حديثٍ مع صحيفة «نداء الوطن»، إن «سعر صرف العملة يُعتبر عاملاً أهميته كبيرة جدّاً في الإستقرار الإجتماعي والنمو الاقتصادي. التدهور الذي طال العملة الوطنية كبير، إنما الإستقرار في سعرها مقابل الدولار من دون تبدلات سريعة ساعد المواطنين بعض الشيء على إدارة أمورهم المالية ومصاريفهم اليومية لتأمين إحتياجاتهم»، متخوفةً من «عدم تحسّب المواطنين لإدارة أموالهم بشكل يؤخذ فيه المستقبل القريب بعين الإعتبار».
إنكماش كبير!
كذلك تتطرّق الكك إلى سلبيات تثبيت الدولار، مشيرةً إلى أن أوّلها «التكلفة الكبيرة والمؤكدة التي يتكبّدها مصرف لبنان، أهمّها حالة الإنكماش الاقتصادي الكبير الذي يشهده البلد، لأنه من الواضح سيطرة مصرف لبنان على الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية بين المصارف ولدى المواطنين، ما يجعل الحركة الإقتصادية التي تنطلق من الكتلة النقدية وتعود إليها غير طبيعية وفي حالة إنكماش. حتى أن نفقات الدولة تختصر من قبل مصرف لبنان المسؤول عن تنظيمها وجدولتها. فالموازنة العامة لا تتعدى الـ 3 مليارات دولار وقد توازي موازنة شركة واحدة. هذا الحجم الصغير للموازنة يسمح بالسيطرة بعض الشيء على الكتلة النقدية بعدما تقلّصت نفقات الدولة لهذا المستوى»، مضيفةً «لا يُمكن أن ننسى حركة المصارف الممكن أن تكون عادةً عاملاً مضاداً في هذه الحالة وهي غير موجودة في لبنان، فالودائع التي تعد جزءاً من الكتلة النقدية عنصر شبه غائب محلياً. بإختصار كل التركيبة النقدية والمالية في البلد غير علمية وغير طبيعية».
وتوضح أن «التبدل في سعر الصرف أمر طبيعي وليس العكس. لأن سعر صرف العملة المحلية يعكس الحالة الإقتصادية والسياسية والأمنية في البلد. بالتالي، عدم تأثر سعر الصرف بالعوامل الأخيرة المستجدة في لبنان مثل الحرب خير دليل على أن السعر المثبت مصطنع ومسيطر عليه ومجمّد لدرجة أنه لا يخضع لحركة السوق ولا للحركة النفسية للمواطنين حيث عادةً ما تختبئ الناس بالعملة الصعبة عند حدوث أي خضات».
منصوري وتمرير الوقت
وتختم الكك: «الشفافية في مصرف لبنان لا تُقيم ولا تحصر ببيانات تكشف بعض الأرقام، بل هي عبارة عن نمط ونهج كاملين. وللأسف بعد مرور حوالى اشهر طويلة على استلام وسيم منصوري الحاكمية لم نر ممارسة لأي شفافية عميقة ومستدامة من نوع آخر وفق نهج مختلف. حتى أننا عدنا إلى بيانات وحدة العلاقات العامة في البنك المركزي ما يذكرنا بعهد رياض سلامة. منصوري ينتهج سياسة تمرير الوقت، ساعياً إلى تفادي خذلان أي طرف للخروج بأقل أضرار شخصية ممكنة. لأن من الواضح أن طموحاته مركزة على أهداف أخرى ويعتبر أن الحاكمية مرحلة انتقالية بالتالي لا يقوم بالعمل الجذري المطلوب منه».
السعر الحقيقي
من جانبه، يرى الخبير المالي ميشال قزح أنه «منذ العام 2019 حتى العام 2023 عاش لبنان فترة كانت تنهار خلالها الليرة بشكل دراماتيكي بسبب التلاعبات بعمليات الصيرفة من قبل حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة إلى جانب شبكة الصرافين التي كانت تستفيد منها شخصيات سياسية ونافذة. آنذاك، سجّل سعر صرف الليرة أعلى مستويات حيث وصل إلى 140 ألفاً وهذا الرقم لم يكن يعكس القيمة الحقيقية للعملة بل كان مضخماً. أما في الوضع الحالي، فيفترض أن يتراوح سعر صرف الليرة الحقيقي ما بين الـ 50 والـ 60 ألفاً في حين أنه مثبت على حدود الـ 90 ألف ليرة».
صدمة إيجابية؟!
ويشرح قزح عبر «نداء الوطن» قائلاً: «بعد مرحلة الإنهيارات ، كان النقد بحاجة إلى مرحلة إنتقالية يثبت فيها سعر الصرف لتحقيق نوع من الإستقرار يسبق الإنتقال إلى مرحلة تعويم سعر الصرف، ويبدو أن هذه السياسة التي تتبعها حاكمية مصرف لبنان حالياً. الهدف وضع موازنة وإحتساب ضرائب وفق السعر الحالي للدولار، وبعدها يمكن دخول مرحلة السعر المتحرّك مع إطلاق منصة بلومبيرغ التي نسمع الحديث عنها ، والتي يتحرك فيها سعر الصرف وفق العرض والطلب على الدولار. وبما أن الإقتصاد اللبناني مدولر بنسبة 85 إلى 90 في المئة نظراً إلى إنعدام الثقة بالليرة وغياب الضمانات حولها، نحتاج الى دخول مرحلة إستقرار وخلق صدمة إيجابية لا يمكن لمصرف لبنان القيام بها بمفرده . وهذا بحاجة إما إلى إتفاق مع صندوق النقد أو إلى اتفاق سياسي بين الأطراف المحلية في حين أن الخياريْن اليوم غير وارديْن».
صعوبة صمود «المركزي»
ويشير إلى أن «الأقوال حول عمل «المركزي» على شراء دولارات من السوق لزيادة إحتياطه صحيحة على الأرجح، لأن البلد مرّ بفترة لم يكن فيها سعر الليرة عادلاً ولا هو كذلك اليوم. في حين أن الدولة تُجبي الضرائب وفق سعر الصرف الحالي وقيمتها أكبر من قدرة الشعب على التحمّل، إذاً يشتري المواطنون الليرة لتسديد الضرائب، ويقوم المركزي بشراء الدولارات». ويتابع: «لن يتمكن مصرف لبنان من الصمود خلال هذه المرحلة لأكثر من سنة، إذ سيصل إلى مكان يبدأ فيه باستنفاد إحتياطه لأن الإصلاحات لا تطبق في حين أن عجز ميزان المدفوعات كبير جدّاً. صحيح أن «المركزي» لا يعتمد على زيادة طباعة الليرة، إلا أن هذا العجز مخبّأ في حساب الدولة لدى مصرف لبنان والذي تضخم وبات يحتوي على ما يقارب الـ400 تريليون ليرة. حين يصدر قرار بصرف هذه الأموال التي ستحول في النهاية إلى إستهلاك بالتالي إلى دولارات، سنرى تدهوراً مرعباً في سعر الصرف. بإختصار نفهم أن المسؤولين يؤجلون المشكلة لسنة».
مشكلة مشابهة بظروف مختلفة
وأما خبير المخاطر المصرفية د.محمد فحيلي فيؤكّد أن «القيمة الحقيقية لليرة اللبنانية مقابل أي عملة أجنبية تحدد نتيجة التبادل الحر في سوق القطع الأجنبي، وفق العرض والطلب على العملة. أي سعر ناتج عن أي عامل غير التبادل الحرّ له تداعيات سلبية، ومن بين هذه العوامل تدخل الدولة لتثبيت سعر الصرف، بغض النظر عن الأهداف الممكن أن تكون موجودة خلف التثبيت».
ويضيف: العودة الى الاستهلاك بمستويات ما قبل الازمة تزيد الطلب على الدولار ، ولهذا السبب لا يزال سعره مرتفعاً، أما الثمن الناتج عن هذا الطلب فيدفعه المجتمع بأكمله ويخلق معاناة لغير المقتدرين مادياً . ففي الإقتصاد الحر تنعكس هذه الحالة على مختلف المكونات المجتمعية. وبالنسبة إلى الاتجاه نحو تثبيت سعر الصرف ففي القرار مشكلة لجهة تحديد الرقم المتوقع ألا يأتي نتيجة ظروف اقتصادية حرّة، بل نتيجة فساد سياسي ويتم إختياره بشكل تلبى فيه رغبات مكونات القطاع الخاص النافذة، إضافةً إلى تساؤلات تطرح حول توفّر الإيرادات والموارد الكافية لدى مصرف لبنان لحماية الليرة وفق السعر المتفق عليه. كما أنه سيكون للتثبيت تداعيات كبيرة مرتبطة بطبيعة الإقتصاد اللبناني الذي يفتقد إلى الرقابة والتنظيم والى السياسات الاقتصادية الإصلاحية والتنظيمية».
المجتمع هو الخاسر
ويتابع: «تثبيت سعر صرف الدولار يعني أن البلد يتجه نحو دعم أي مكون من مكونات المجتمع يعتمد على الدولار للإستهلاك أو لأي غرض آخر. وهذا القرار إن جاء بشكل شامل ومطلق يعني أن المجتمع بأكمله سيدفع الثمن، مع الأخذ في عين الإعتبار أن هناك جزءاً منه لديه القدرة على تحمل نتائج هذا التثبيت في حين أن الجزء الآخر يرزح تحت تدهور قدرته الشرائية الأمر الذي يتحول إلى مشكلة معيشية وإجتماعية. وهذا ما يعيشه لبنان حالياً وكأن لدينا اقتصادين ضمن إقتصاد واحد، فالجزء الذي تدولرت رواتبه بنسبة 100% لم يعد يشعر بحدة الأزمة على عكس الجزء الذي يعاني ما بين الدولرة والليرة فيعيش أزمة معيشية حادة أوصلته إلى خط الفقر وما دونه».
بناءً عليه، يُعارض فحيلي «تثبيت سعر الصرف مهما كان الاتجاه الذي سيتخذه»، مؤيداً في المقابل «وضع ضوابط على الإستيراد لمدة سنتين بالحد الأدنى، أما من يريد الإستيراد خارج هذه الضوابط فيمكنه تقديم طلب بالسلعة التي يريدها، بالتالي يدفع ثمنها مباشرةً من دون خلق طلب إستثنائي على الدولار في السوق لتحقيق رغبات شريحة معينة أو أصحاب قطاع ما».
ويرى أنّ «الوضع الذي يعيشه البلد اليوم يعكس فقدان السياسات الفعالة في إدارة المشهدين النقدي والإقتصادي، وإتخاذ قرار بموضوع سعر الصرف حول التحرير أو التثبيت يعدّ جزءاً أساسياً من إدارة المشهد النقدي. السياسات الإقتصادية المتبعة يجب أن تكون هادفة أما التثبيت بشكل مطلق وعشوائي فعلى الأكيد ستكون كلفته مرتفعة وسيستفيد جزء من المجتمع على حساب جزء آخر يدفع الثمن».
طرق فعالة
ويكشف عن «طرق فعالة يمكن من خلالها دعم سعر الصرف كجزء من سياسة إقتصادية ونظرة إستراتيجية لكيفية إدارة الاقتصاد، سواء لجهة إنقاذه من الأزمة أو لجهة تمكينه من النمو. فالإقتصاد المستدام ليس قراراً خاطئاً لأنه، إستراتيجياً، ما من أي خطأ في دعم الصناعة المحلية مثلاً عبر توفير دولار مدعوم لإستيراد المواد الأولية. المطلوب أن يكون الدعم هادفاً لتمكين أصحاب المصانع ومساعدتهم على تطوير قدرة تنافسية مع الصناعات الغذائية المستوردة، وهذه سياسية ذكية. كذلك، يمكن تأمين دولارات مدعومة لطلاب الجامعة اللبنانية المتفوقين لإستكمال دراساتهم العليا في الخارج. يمكن أيضاً أن تكون إحدى السياسات المستدامة إنشاء صندوق نهاية الخدمة حسب مجال العمل، والسماح بشراء الدولار على سعر مدعوم إن كان سيوضع في حساب نهاية الخدمة. كل هذه القرارات وغيرها عندما تأتي ضمن سياسات ونظرة إستراتيجية لإدارة الاقتصاد تكون صحيحة ومنتجة».