دار عراك حامي الوطيس منذ نهاية العام الماضي بين حاكم مصرف لبنان بالانابة وسيم منصوري وجمعية المصارف، منذ الإعلان عن نيته تعديل التعميم 151 الذي يلغي سعر الصرف «اللولاري» أي 15 ألف ليرة ويسمح للمودعين بسحب 150 دولاراً شهرياً محسوباً من الوديعة على سعر 89500 ليرة، او على سعر يحدده مجلس النواب، ما دفع بالنائب علي حسن خليل الى اقتراح سعر صرف عند 25 ألف ليرة خلال جلسة مناقشة الموازنة، لكن الاقتراح سقط… سبب هذا العراك أن المصارف تتذرع بأن تلك الحسابات التي يفترض ان تستفيد من تعديل التعميم 151 صنّفها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة بـ»غير المؤهلة»، وفيها آثار تجارة شيكات ومحوّلة من ليرة الى دولار بعد 17 تشرين 2019، وأنّ هناك مصارف لا تستطيع دفع هذا المبلغ، كما أنّ دفعه سيشكل سابقة يبنى عليها لاحقاً لمنع تطبيق «الهيركات» (اقتطاع) على تلك الودائع غير المؤهلة، كما يزعم المعترضون.
أقرت الموازنة وظهرت مؤشرات فيها على اعتماد سعر 89500 ليرة للدولار، لا سيما عند تحويل ايرادات الدولة بالدولار الى ليرة لادراجها في جانب الايرادات وعندما ضربت بعض الرسوم والضرائب بـ60. هنا قويت حجة منصوري لجهة اعتباره ضمناً سعراً صادراً بقانون سيلتزمه، علماً ان رئيس لجنة المال والموازنة ابراهيم كنعان يرفض ان تكون مسؤولية تحديد سعر الصرف على عاتق مجلس النواب.
على أي حال، رفض منصوري إصدار أي تعميم من عنده بسعر أقل من سعر السوق، لأنّ ذلك يعدّ «هيركات» ليس من صلاحياته، بل من صلاحيات مجلس النواب، ولا سيما في قانون «الكابيتال كونترول» المنتظر إقراره مع قانوني الانتظام المالي وهيكلة المصارف. فكل ذلك يقع على عاتق مجلس النواب ويطبق البنك المركزي ما يصدر من تشريعات في هذا الخصوص. كما ان مصرف لبنان يرمي الى اعتماد منصة بلومبيرغ لتحرير سعر الصرف، وذلك التحرير من شروط صندوق النقد الدولي ايضاً.
كل ما سبق يجعل السؤال عن الجهة المسؤولة عن تحديد سعر الصرف: هل هو المصرف المركزي أم مجلس النواب أو الحكومة؟ خصوصاً أن هناك وجهة نظر قانونية تفيد أن لا مسوغ قانونياً لحاكم المركزي بتحديد سعر الصرف، وقد فعلها الحاكم السابق رياض سلامة خلافاً للقانون، وأن المرجع الصالح هو مجلس الوزراء ومجلس النواب. ويستندون بذلك الى أحكام قانون النقد والتسليف الذي لم يتضمن أي نص، صريحاً كان أو ضمنياً، يمنح حاكم مصرف لبنان صلاحية تحديد سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية. في حين أن صلاحية تحديد سعر انتقالي قانوني جديد للعملة الوطنية محصور بالسلطة التشريعية، التي لها حقّ تفويض هذه الصلاحية إلى وزير المالية أو إلى الحكومة كما حدث في العامين 1963 و1973.
في الميزان القانوني يشرح المحامي راضي بطرس لـ»نداء الوطن» أن «المادة 229 من قانون النقد والتسليف تنص على أنه ريثما يحدد بالذهب سعر جديد لليرة اللبنانية بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وريثما يثبت هذا السعر بموجب قانون في مجلس النواب، يتم تحديد سعر صرف الليرة مقابل الدولار على أساس 0.8888 غرام ذهباً». لافتاً الى أن «صلاحيات مصرف لبنان هي المحافظة على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي من خلال التدخل للحفاظ على اسعار الصرف الليرة مقابل العملات الاجنبية». يضيف: «مجلس النواب يجب أن يقر الموازنة بالليرة اللبنانية، وما حصل في موازنة 2024 هو تعدٍ على هذه الصلاحية من خلال احتساب الضرائب والواردات على اساس سعر صرف معين لليرة مقابل الدولار. ولأن الموازنة قانون يظهر الامر وكأن سعر الصرف هو ما تم اعتماده في الموازنة وكل مؤسسات الدولة مجبرة على الالتزام به، لكن فعلياً فان من يمكنه التدخل والامساك بالسوق النقدي هو المصرف المركزي الذي يطبع الليرة».
يوضح راضي أن «اي بلد يحدد سعر عملته بناء على ما يملكه من اصول (معادن وعملات أجنبية) وحجم العملة الموجود في السوق مقابل باقي العملات. وبرأيي من يستطيع التأثير على سعر صرف الليرة مقابل باقي العملات هو مصرف لبنان عبر ممارسة سياسته النقدية، في حين ان الحكومة تضع السياسة الاقتصادية والمالية. ولأن هذا الامر لا يحصل حالياً، فمصرف لبنان يضطر الى لعب هذا الدور»، معتبراً أن «الحلقة التي يدور الجميع فيها هي انه اذا تم احتساب سعر اللولار وفقاً لسعر السوق، عندها سيضطر المركزي لطباعة ليرة وزيادة سعر الدولار في السوق السوداء. لكن هناك عدة عوامل تقف حائلاً أمام تحديد سعر صرف الودائع، الاول هو التضخم وتأمين الكتلة النقدية اللازمة، ولذلك يجب ان يتم هذا الامر بالتوافق ووفق استراتيجية تمكّن من الخروج من هذه الحلقة المفرغة».
وفي دراسة سابقة يقول الاستاذ المحاضر في قوانين النقد والتسليف والبنوك المركزية توفيق شمبور ان المادة 65 من الدستور تنص بشكل صريح على ان مجلس الوزراء هو الذي يضع السياسات العامة للدولة في جميع المجالات، ما يستدعي تفسير المادة 33 من قانون النقد والتسليف، التي تمنح المجلس المركزي لمصرف لبنان صلاحية تحديد السياسة النقدية، من ضمن اطار المادة 65 المذكورة. فيكون هناك تشاور بين الحكومة ومصرف لبنان بخصوص الاهداف النقدية التي يتطلبها الصالح العام، على الاخص سعر الصرف الواجب استهدافه في سوق القطع على ضوء الامكانيات المتاحة. ويكون لمصرف لبنان مطلق الصلاحية في اعتماد السياسات العملانية للعمل على استقرار سعر الصرف على المعدل الذي تقرر استهدافه ووفقاً لامكانياته.
ويضيف: الآلية الآنفة الذكر المتضمنة اتصال وتتبع واشراف ومشاركة مجلس الوزراء مصرف لبنان في تحديد الغايات المستهدفة في المجال النقدي وبرقابة نهائية من السلطة التشريعية، لم يعمل بها بعد التسعينات. وكان هناك تقصد بإهمالها واستبعادها عمداً، وكان هذا الامر الخطوة او الخطيئة الأولى في درب الانهيار.
ويذكر شمبور بما قاله النائب ياسين جابر عندما اعترف لـموقع «أساس» في 17 تشرين الثاني 2020 «بأنّ السلطة السياسية تخلّت ومنذ زمن، وبإرادتها، عن دورها، وتركت الأمر لمصرف لبنان بشرطين: (1)- الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة على الـ1500، (2)- تأمين الدولارات لسدّ عجز الموازنة. وهي الدولارات عينها لتمويل المشاريع التي استفاد منها الجميع، وقدم التمويل لفسادهم تالياً. وطالما أمّن البنك المركزي هذين المطلبين لم يقم أحد بمساءلته».
ويوضح شمبور ان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ذكر في ورقة قدمها الى الاجتماع الثامن لحكام المصارف المركزية في البلاد الفرنكوفونية في داكار عام 2001، وحملت عنوان «سعر الصرف وفعالية السياسة النقدية»: «إن مصرف لبنان اعتمد منذ عام 1993 سياسة تثبيت سعر صرف الليرة بالنسبة للدولار لانها الاكثر توافقاً مع الطابع الحر للاقتصاد اللبناني(؟؟؟) ولان حسنات هذه السياسة (1)- انها تحفظ البلاد من السقوط في الدائرة الجهنمية التضخم/ تصحيح الاجور، (2)- انها تحسن القدرة الشرائية للمستهلكين و(3) انها تجذب رؤوس الاموال الخارجية، وهي تفوق مساوئها والتي هي (1)- الارتباط باقتصاد الدولة التي تم ربط العملة بها على الاخص بمجال معدلات الفوائد، (2)- الضغط على استقلالية السياسة النقدية بربطها بالسياسة النقدية للدولة التي تم ربط الليرة اللبنانية بعملتها. وهذا كلام صحيح لكن جزئياً، لأنه اسقط الاشارة الى امرين بالغي الاهمية هما:
1- إن قرار تثبيت سعر الصرف اتخذ بقرار اداري منفرد من قبل مصرف لبنان اي بشكل مخالف للدستور وبالتحديد المادة 65 منه التي تتحدث كما اسلفنا عن دور لمجلس الوزراء في تقرير اية سياسات عامة. وهذا الامر يتعلق بأهم موضوع يخص المواطن وهو القوة الشرائية لدخله والحفاظ على قيمة مدخراته. لقد عرض حاكم مصرف لبنان في احدى اطلالاته للموضوع فذكر ان قرار التثبيت حصل سنداً للبيانات التي كانت تتقدم بها الحكومات الى المجلس النيابي للحصول على ثقته. اقرار لا يستقيم قانوناً لانه يخلط بين الحكومة ومجلس الوزراء كما وآليات ومستلزمات اتخاذ الاخير لقراراته على نحو اصولي.
2- ان قرار تثبيت سعر الصرف لم يشر الى مصادر دعمه او تمويله. وقد تبين لاحقاً انه من خلال اعتماد انموذج Ponzi Scheem حيث ظهر ان الاموال المتحصلة من هذا الانموذج والمتأتية بقسم كبير منها من اموال المودعين بالعملات الاجنبية بمقتضى هندسات مالية اجريت بين المصارف ومصرف لبنان كانت وراء الفجوة المالية في حسابات الاخير. وقد استعملت جزئياً لتثبيت سعر الصرف حيث ذكرت مقدمة ورقة حكومة الرئيس ميقاتي المؤرخة 9 ايلول 2022 عن «خطة التعافي المالي» في الصفحة رقم 4 التالي: «تكمن الاسباب الاساسية لأزمة لبنان المالية في اعتماد سياسة مالية غير منضبطة معطوفة على سياسة نقدية سعت الى الحفاظ على سعر صرف مبالغ في قيمته من خلال نظام صارم لتثبيته مع اسعار فائدة عالية». علماً ان صندوق النقد الدولي لفت في عدد من تقاريره الى سلبية وخطورة الاستمرار بـ«تثبيت سعر الصرف» بتوجه يتماهي مع ما هو متفق عليه من قبل عموم الاخصائيين بأمور النقد من ان التثبيت هو على الدوام اجراء مؤقت او انتقالي، ولا يجوز ولا يمكن الاستمرار به والا لكانت كلفته عالية ومرهقة.
ويؤكد شمبور ان الحجة الاساسية المعلنة من مصرف لبنان دفاعاً عن التثبيت كانت ان تكلفته مهما بلغت ومهما كانت غالية تبقى اقل بكثير من تكلفة الاضطرابات النقدية والاقتصادية والاجتماعية التي يمكن ان تتأتى من عدم انضباط سعر الصرف. وقد أتت الازمة الراهنة لتظهر عدم سلامة هذا الرأي بالمطلق. فنتيجة التثبيت لثلاثة عقود متتالية ومن خلال الاستقراض انتهت بكارثة نقدية ومصرفية قل مثيلها.
على ضفة المصرفيين يؤكد رئيس مجلس إدارة I&C Bank جان رياشي لـ»نداء الوطن» أن «قانون النقد والتسليف ينص على أن سعر الصرف هو سعر السوق. وحين تم وضع هذا القانون كان هناك ربط بين سعر صرف العملة وبين احتياطي الدول بالذهب وفقاً للاتفاقية العالمية التي كانت متداولة وتم الغاؤها لاحقاً في سبعينات القرن الماضي، وبات سعر العملات في الدول يحدد بحسب ظروفها الاقتصادية»، شارحاً أن «قانون النقد والتسليف اللبناني ينص على أنه في حال لم يتم احتساب وضع الليرة باحتياطي الذهب الموجود، يكون السعر الرسمي هو سعر السوق، وعلى وزير المالية تحديد سعر صرف قريب من سعر السوق، أي وبحسب القوانين فان سعر الصرف هو سعر السوق».
يرى رياشي أنه «لا يمكن لأي جهة تحديد سعر الصرف، بل على وزير المالية تحديد سعر صرف قريب من سعر السوق المتداول لاتمام عمليات الجباية وغيرها. وهذا ما طبقته وزارة المالية حيث وضعت الموازنة على سعر 89000 ليرة وهو سعر المتداول في السوق»، مشدداً على أنه «لا شيء في القانون اللبناني اسمه سعر صرف رسمي، هذا الامر تم اختراعه ايام الحاكم سلامة. في لبنان سعر صرف الدولار مقابل الليرة كان دائما حرّاً. وحين نريد طريقة احتساب الضرائب يحق للمشرّع تحديد السعر الذي يناسبه، ولكن هذا ليس سعر صرف الدولار بل طريقة احتساب الدولار الضريبي مقابل الليرة، ولا يمكن تسميته تعدد سعر صرف بل تعدد اسعار لاحتساب معين للضريبة».
ويختم: «الحكومة والبرلمان هما من يقرر كيفية احتساب الضرائب. وبالنسبة للودائع المحجوزة في المصارف الامر مختلف، فما يحصل هو هيركات ولذلك يسعون لتحديد سعر صرف معين للدولار مقابل الليرة، وفي الحقيقة هو ليس سعر صرف للدولار بل اقتطاع للودائع ما يحصل هو نوع من التسلية، فاحتساب سعر الصرف للضرائب تم اقراره في الموازنة، اما للودائع فحصل تغيير في التعميم 151».
في الميزان الاقتصادي والمالي يرى الخبير غسان شماس أن «الاختلاف الحاصل اليوم ليس على سعر صرف الدولار، بل على سعر احتساب الدولار وهذا ما يجب ان يفهمه اللبنانيون. سعر صرف الدولار هو واحد اي 89500 ليرة، وهذا السعر انتقائي وليس السعر الصحيح. وكل جهة تقرر سعر الدولار بحسب نطاقها، وزارة المالية تحدد سعر الدولار الجمركي، في حين ان سحب المودعين لاموالهم على الليرة اللبنانية وفقاً لـ15000 ليرة، وفي ما يتعلق باحتساب الودائع يرى مصرف لبنان أنه يجب اعتماد سعر 89000، وهذا ما تعترض عليه جمعية المصارف لأن رأسمالها بالليرة اللبنانية في المصرف المركزي كان على 15000 ليرة، واعتماد سعر السوق هذا يعني افلاس جميع المصارف».
يضيف: «لا يمكن حسم هذا الجدل لأن كل طرف يريد احتساب سعر دولار يناسبه، ونحن بحاجة الى توحيد سعر الصرف، وهذا يتم عبر قرار من مجلس النواب ينص على انه لا سعر صرف للدولار الا سعر السوق اي وفقاً للعرض والطلب»، مشيراً الى أن «هذا الامر يجب أن يسري على كل المعاملات بمعنى تطبيق القانون، وقانون النقد والتسليف ينص على ان سعر صرف الدولار هو سعر السوق، وفي حال أردنا توكيل المصرف المركزي تحديد سعر الصرف حسبما يراه مناسباً فهذا الامر يحتاج الى تعديل».
يشدد شماس على أن «من يحدد سعر الصرف غير معيار البيع والشراء، هو المصرف المركزي الذي يتدخل شارياً أو بائعاً للدولار للجم ارتفاعه. أما تحديد سعر الصرف بالمطلق فهو مفهوم خطأ وقد دفعنا ثمنه غالياًعلى الصعيد الاقتصادي والمالي. وليس المطلوب في المرحلة الحالية تحديد سعر صرف لأننا عندها نكرر دفع الكلفة التي سبق أن دفعناها (على حساب الاحتياط وطبع الليرة)»، جازماً بأن «كلمة تحديد سعر الدولار مقابل الليرة خطأ، وما يحصل اليوم هو الخلاف على تحديد احتساب الدولار بالنسبة لدفع الضرائب او تقاضي المعاشات أو غيرها وننتظر الجهة التي تحدد السعر، وكلمة تحديد هنا تعني انتقاء سعر دولار لأن في لبنان اكثر من سعر للدولار (1500/ 3900/15000/ 89000)».
ويختم: «هذه هي الاشكالية وكل جهة تحاول أخذ الامور لمصلحتها، وبالتالي الاشكالية ليس على تحديد سعر الدولار بل على اختيار أي من هذه الاسعار المتداولة للدولار لاحتساب الضرائب والرواتب وسحوبات المودعين».