سعر صرف السحوبات المصرفيّة: سجال منصوري والبرلمان والحكومة

من الواضح أنّ تريّث حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في إصدار تعديل على التعميم 151، بات مرتبطًا بنتائج الجلسة التشريعيّة في مجلس النوّاب. إذ يطالب منصوري البرلمان بتشريع سعر صرف خاص، للسحوبات المصرفيّة من الحسابات المدولرة. مع الإشارة إلى أنّ التعميم 151 كان يُعنى بتأمين السحوبات من السيولة المصرفيّة التي دخلت الحسابات بعد تشرين الأوّل 2019، والتي لم يطلها مفعول التعميم 158، الذي يسمح بتأمين سحوبات نقديّة بالدولار الأميركي. ولغاية أواخر السنة الماضية، كان التعميم 151 يؤمّن السحوبات المصرفيّة بالليرة فقط، وبسعر صرف 15 ألف ليرة للدولار، أي باقتطاع كبير نسبته 83% من قيمة الوديعة. ولذلك، قرّر مصرف لبنان عدم تجديد التعميم في أواخر العام 2023، بانتظار تعديله وتحديد آليّة أكثر واقعيّة.

غير أنّ السعي لرمي كرة النار في ملعب البرلمان، لن يكون نزهة يسيرة بالنسبة للحاكم بالإنابة. إذ يبدو أنّ هناك اعتراضات جديّة يمكن أن تحول دون تنفيذ البرلمان لطلب منصوري. وهو ما يطرح السؤال عن مصير التعميم 151، ووجهة التعديل الذي يعمل عليه المصرف المركزي. ثمّة رأي شائع داخل المجلس النيابي اليوم، كرّسته مراسلة عمل عليها رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، مفاده أن تحديد سعر الصرف لا يندرج من ضمن مفهوم الموازنة. وأنّه من الأفضل ترك مسألة سعر الصرف للسلطة التنفيذيّة، بالتوافق مع مصرف لبنان. وبينما يغيب وزير المال عن السمع، تفاديًا لتحمّل مسؤوليّة أي موقف، تصبح المسألة برمّتها عالقة في سجال ثلاثي: بين البرلمان ومنصوري والحكومة.

منصوري لن يتحمّل مسؤوليّة “سعر صرف السحوبات”

تدريجيًا، ألغى مصرف لبنان جميع السحوبات التي كانت تتم بأسعار صرف منخفضة، بناءً على تعاميم الحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة.

ففي المرحلة الأولى، ألغى المجلس المركزي للمصرف الجزء الذي كان يتم سداده بالليرة اللبنانيّة بسعر منخفض جدًا، بحسب التعميم 158، لتقصر السحوبات على دفعة شهريّة بالدولار النقدي. وهذا التطوّر، استفاد منه أصحاب الودائع القائمة منذ ما قبل تشرين الأوّل 2019، والتي تستفيد من مندرجات هذا التعميم. ثمّ استكمل المصرف المركزي هذا التوجّه بعدم التجديد للتعميم 151، الذي اقتصرت مفاعيله سابقًا على تأمين الدفعة بالليرة اللبنانيّة باقتطاع كبير، للودائع التي لا تستفيد من التعميم 158. وبهذا الشكل، لم يعد مصرف لبنان يعتمد أي سعر صرف خاص للسحوبات النقديّة، ابتداءً من بداية هذه السنة.

كل هذا التوجّه، يعكس فلسفة قانونيّة جديدة اعتنقها المجلس المركزي لمصرف لبنان، ومعه الحاكم بالإنابة. إذ يعتبر منصوري وأعضاء المجلس أن أي سعر صرف “غير واقعي” للسحوبات هو من الناحية العمليّة هيركات، ولو جاء من خلال حيلة أسعار الصرف المتعددة. وبالنسبة لمنصوري والمجلس المركزي، لا يفترض أن يتحمّل المصرف المركزي مسؤوليّة أي اقتطاع من قيمة الودائع، من خلال التعاميم التي تنظّم السحوبات. وهذه الخطوة، يُفترض أن تتخذ بُعداً تشريعياً يتحمّل مسؤوليّته مجلس النوّاب، لا بُعداً تنظيمياً وإدارياً عبر المصرف المركزي.

غير أنّ هذا التوجّه لا يعني اتجاه المصرف المركزي نحو إلغاء فكرة “سعر صرف السحوبات” بالكامل، بل يعني عدم تحميل المصرف مسؤوليّة هذه الخطوة. وهذا تحديدًا ما يدفع الحاكم بالإنابة إلى مطالبة البرلمان بتحديد سعر صرف السحوبات المصرفيّة، أو ما يُعرف بالدولار المصرفي، كجزء من الموازنة أو على هامش أعمال الجلسة التشريعيّة، لاستعمال سعر الصرف هذا “عند الحاجة”. وعلى ما يبدو، بات مصير التعميم 151 وتعديلاته، أو الآليّة البديلة عنه، مرتبطًا بإمكانيّة تنفيذ هذه الخطوة التشريعيّة.

عودة إلى السحوبات بالليرة؟

ما يهم في هذه التطوّرات، هو أنّ المصرف المركزي لم يضع جانبًا فكرة تأمين السحوبات بالليرة، ولو من خلال سعر صرف “أكثر واقعيّة”، وأقرب من سعر صرف السوق. لكنّ الأكيد هو أنّ سعر الصرف هذا لن يكون مطابقًا لسعر صرف السوق، أو سعر المنصّة الموعودة، وإلا لما احتاج المصرف إلى تشريع خاص لما سيُعرف بدولار المصارف. ما سيكسبه المودع هنا، هو نسبة اقتطاع أقل، مقارنة بفترة رياض سلامة.

الخلاصة الثانية، وهذا يبقى في إطار التحليل، هو أن آليّة تسديد الـ150 دولاراً أميركياً حسب التعميم 151، قد تعود إلى فكرة السحب بالليرة اللبنانيّة كليًا أو جزئيًا. بل وقد يعمد المصرف حتّى إلى إضافة دفعة شهريّة إلزاميّة بالليرة، بسعر صرف معيّن، إلى جانب الدفعة بالدولار النقدي، للمستفيدين طوعًا من التعميم 158. إلا أنّ هذا الاتجاه سيبقى رهن تمرير التشريع الذي يطالب به الحاكم بالإنابة وسيم منصوري.

السؤال الأهم، ماذا سيفعل الحاكم إذا لم يتم تمرير هذا التشريع؟ هل سنعود إلى فكرة تأمين السحب بالدولار للمستفيدين من التعميم 151؟ أم هل سينتظر الحاكم بالإنابة موقف الحكومة ووزير ماليّتها، كما يطالب بعض النوّاب؟ هذا ما لم يتضح حتّى هذه اللحظة، حتّى بعد اجتماع الحاكم مع وفد جمعيّة المصارف.

مطالعة في التاريخ مع إبراهيم كنعان

الموقف المضاد الأهم في المجلس النيابي، جاء من جانب رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، الذي رفض سابقًا فكرة تشريع سعر صرف معيّن، من جانب المجلس. يمكن العودة هنا إلى المذكّرة الذي وجهها في بداية هذا الشهر، إلى زملائه النوّاب، لتبرير هذا الموقف.

في هذه المذكّرة، يبدأ كنعان بمطالعة عامّة تؤرّخ تجربة البشريّة مع فكرة سعر الصرف، ابتداءً من تبادل السلع على أساس المقايضة، ومرورًا باعتماد الذهب والفضّة كوسيلة تبادل، ثم وصولًا إلى تجربة الكساد الكبير ومن بعده نشوء نظام بريتون وودز. ثم يعدد كنعان تجربة لبنان مع تحديد سعر الصرف، من قانون النقد والتسليف، وصولًا إلى تجربة تثبيت قيمة الليرة منذ بداية التسعينات، ومن ثم تعدّد أسعار الصرف بعد حصول الأزمة.

هكذا، يمضي كنعان في تعداد رتيب لمراحل تاريخيّة من دون خلاصات ذات أهميّة تُذكر، ليصل في النهاية إلى النتيجة البديهيّة التي يعرفها الجميع اليوم: نص قانون النقد والتسليف على تحديد قيمة الليرة مقابل الذهب، غير أن ذلك بات عديم الجدوى بعد تخلّي العالم عن هذه القاعدة. والحل، هو العودة إلى النصوص التي تعطي السلطة التنفيذيّة صلاحيّة تحديد سعر الصرف “بشكل انتقالي” للوصول إلى قاعدة الذهب، لكن من دون اعتماد قاعدة الذهب بالفعل. أمّا الموازنة، فلا يفترض أن تشمل تحديدًا سعر الصرف، بحسب مفهوم الموازنة كما تعرّفه المادّة الخامسة من قانون المحاسبة العموميّة.

هكذا، تصبح الكرة في ملعب الحكومة، حسب مذكّرة كنعان، ومن بينها وزير الماليّة يوسف الخليل الغائب عن السمع، والذي يفترض أن يكون القيّم على علاقة الحكومة بالمصرف المركزي، وعلى تناسق السياسات الماليّة مع سياسات مصرف لبنان النقديّة. غياب وزير الماليّة عن السمع لم يعد مشكلة بالنسبة إلى إشكاليّة سعر الصرف فقط، بل أيضًا بالنسبة إلى مسألة الموازنة نفسها. فكل ما في الموازنة التي تعكس عجزًا صفريًا، يستند إلى فرضيّة واحدة، وهي قيمة الواردات التي قدّرتها وزارة الماليّة في كتاب موجّه إلى المجلس النيابي، من دون تقديم أي تفاصيل. لا تفاصيل في كتاب وزارة الماليّة، ولا إيضاحات من جانب يوسف الخليل.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةموازنة هجينة بأرقام تجميلية.. ستمر رغم الانتقادات اللاذعة
المقالة القادمةاضطرابات البحر الأحمر: “فيتش” ترصد حركة الشحن والأسعار