نحو المزيد من التضخم… سرّ. تحت هذا الشعار، تصدر الحكومة قراراتها العشوائية وكأن البلاد لا تعاني من انهيار مالي واقتصادي وتضخم مفرط أو انهيار في سعر الصرف. فالمعادلة بالنسبة لها بسيطة جدّاً، تطلب وزارة المالية من رئاسة مجلس الوزراء الموافقة على رفع الرسوم والضرائب على البضائع المستوردة من 15 ألفاً الى 45 ألف ليرة، وتلبّيها الحكومة بالتأييد «لتأمين التمويل اللازم للعطاءات والزيادات التي اقرّت والتي ستقرّ لاحقاً، وفقاً لما جاء في كتاب رئاسة مجلس الوزارء الى وزارة المالية. علماً ان الكتاب يشير الى رفع المتوسطات الشهرية لأسعار العملات الاجنبية التي يجب اعتمادها في احتساب الرسوم والضرائب على السلع المستوردة، وبالتالي فان رفع ما يُعرف بالدولار الجمركي سيكون من اليوم وصاعداً، إجراء شهرياً يتم خلاله تعديل سعر صرف الدولار الجمركي، تماشياً مع ارتفاع سعر الدولار وزيادة الإنفاق على القطاع العام الذي سيستمرّ في الارتفاع، طالما ان العملة المحلية تواصل انهيارها وطالما ان رواتب وأجور القطاع العام تواصل فقدان قيمتها.
هذا المشهد يعيدنا بالذاكرة الى تداعيات اقرار سلسلة الرتب والرواتب التي أُقرّت في 2017 من دون أي دراسة دقيقة حول كيفية تأمين الايرادات اللازمة لتمويلها، مما أدى في النتيجة الى مفاقمة عجز الموازنة وانفجار ارقام الدين العام، علماً ان وزارة المالية حينها، جزمت ان رفع الضرائب والرسوم كفيل في تمويل كلفة سلسلة الرتب والرواتب.
تواصل الحكومة معالجة تداعيات الازمة المالية والاقتصادية على طريقة «الترقيع»، وكأن البلد تديره مجموعة جهلة لا تدرك ان الاسباب الجوهرية لانهيار العملة المحلية وبلوغ نسب التضخم مستويات قياسية، لا تعالج بهذه الطرق السطحية غير العلمية.
لم يستخلص أحد من المعنيين العبر من ان القرارات والاجراءات التي اتخذوها منذ بداية الازمة ولغاية اليوم، لم تؤدِ سوى الى تفاقم الازمة وهدر ما تبقى من أموال ومزيد من الانهيار والفقر والبؤس لكافة طبقات المجتمع؟ ألم يستنتجوا انهم يدورون في دوامة مغلقة وان الحلول الجذرية تكمن في مكان آخر؟
اليوم، مع بلوغ سعر الصرف عتبة الـ90 ألف ليرة مقابل الدولار، ومع رفع الدولار الجمركي بشكل مفاجئ من 15 الى 45 ألف ليرة، كيف ستصبح أسعار السلع؟ وهل يستطيع المواطنون تحمّل المزيد من الارتفاعات الصاروخية في أسعار السلع والمحروقات والمولدات والكهرباء وغيرها في آن واحد؟
%10 زيادة بأسعار المواد الغذائية
في هذا الاطار، أوضح نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني البحصلي ان هذا الاجراء سيؤدي حتماً الى ارتفاع اسعار السلع، مشيراً الى ان بعض السلع الغذائية الاساسية معفية من الرسوم الجمركية أو تخضع لرسوم ضئيلة مثل الزيوت والسكر والحبوب والأرز وبالتالي لن تطالها زيادة هائلة في الاسعار، في حين ان سلعاً أخرى ستتأثر أسعارها بنسبة أكبر لان نسبة الرسوم الجمركية التي تخضع لها أكبر وتبلغ بين 25 و70%، أبرزها الاجبان المستوردة (تخضع الى رسوم بنسبة 25%) والسكاكر والحلويات (25%) والذرة (35%) بالاضافة الى الخضار والفواكه المعلّبة… وبالتالي ستكون الزيادة في اسعارها ملحوظة وستصل الى نسبة 10% لبعض المواد الغذائية.
وفيما أشار الى ان المواطنين لم يعد لديهم القدرة على تحمّل أي زيادة ولو بسيطة على اسعار السلع، سأل بحصلي: لماذا لا تبحث الحكومة عن مصادر تمويل أخرى مثل وقف التهريب، ضبط الحدود البرية، او مكافحة التهرب الضريبي؟
أضاف: أي عاقل يعلن عن رفع الدولار الجمركي الى 15 ألف ليرة قبل 6 اشهر من تطبيقه، ويحرم الخزينة من ايرادات بالمليارات؟ لافتاً الى استيراد ما قيمته 5 الى 6 مليارات دولار من السلع منها السيارات الفاخرة قبل بدء تطبيق الدولار الجمركي وحرمان الخزينة من تلك الايرادات.
وأكد البحصلي لـ»نداء الوطن» ان الحكومة تسعى الى رفع سعر الدولار الجمركي الى مستويات سعر صرف السوق، او على الاقلّ الى مستويات سعر منصة صيرفة، مما يشير الى توجّه لاحق الى ربط الدولار الجمركي بسعر صيرفة.
زيادات ترقيعية
وإذا كانت المواد الغذائية لا تتأثر بشكل كبير في رفع الدولار الجمركي، فان كافة السلع المستوردة الاخرى والمصنّفة «كماليات» ستطالها زيادة متفاوتة ولكن ملحوظة بالاسعار على حدّ تعبير عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال، الذي وصف خطوة الحكومة رفع الدولار الجمركي لتمويل الزيادات والعطاءات للقطاع العام، بالترقيعية، وتعاقب 5 ملايين شخص على حساب 300 ألف موظف في القطاع العام، مشدداً على ان رفع أجور القطاع العام أمر محق ولكن التمويل لا يجب ان يكون على حساب كافة المواطنين، «علماً ان الزيادات التي تقرّ لموظفي القطاع العام تفقد قيمتها وتتبخر قبل ان تصل اليهم نتيجة الانهيار المتواصل في سعر الصرف وتضخم الاسعار».
طباعة العملة
وشرح ان كلّ ارتفاع في حجم الكتلة النقدية يقابله مزيد من التدهور في سعر الصرف، وكلّما واصل مصرف لبنان شراء الدولارات من السوق لتسديد رواتب موظفي القطاع العام على سعر صيرفة، كلما زاد التضخم وأمعنّا الدوران في حلقة مقفلة. وقال: قد يؤدي رفع الدولار الجمركي الى رفع ايرادات الخزينة لفترة قصيرة، إلا ان مفعوله سيتلاشى مع انهيار سعر الصرف بنسبة أكبر وسينتفي الهدف منه.
وقال رمّال ان تسريع الانهيار وتعميق حجمه كما يحصل اليوم يصعّب الخروج من الازمة، «وإذا حاولنا لاحقاً تطبيق الاصلاحات المطلوبة لخلق نوع من الاستقرار في سعر الصرف، ستكون النتيجة استقراراً على سعر صرف الـ250 الف ليرة (في حال وصل سعر الصرف الى 500 ألف ليرة) بدلا من 50 ألفاً، على سبيل المثال. وأكد ان المسار المتّبع من قبل المعنيّين يحتّم بلوغ ارقام قياسية كبيرة جدّاً في نسب التضخم، مستغرباً ان يكون المسؤول عن حماية العملة الوطنية، هو ذاته من يسعى لضربها.
تراجع تجاري مستمر
وأوضح ان الحركة التجارية في كافة المؤسسات باستثناء القطاع الغذائي، ومنذ بداية العام، في تراجع مستمرّ وبالتالي لا تحتمل اي زيادات بالاسعار، علماً ان تسارع انهيار العملة يغطي على اي زيادة ناتجة عن عامل آخر ويفقدها من حجمها. إلا ان رفع الدولار الجمركي اليوم الى 45 ألف ليرة سيؤدي حتماً الى زيادة بنسب تتراوح بين 5 الى 15% باأعار السلع، خصوصاً السلع التي تخضع لرسوم جمركية تفوق الـ15%، والمصنّفة كماليات أبرزها السيارات والمفروشات وغيرها…
بالاضافة الى ذلك، أكد رمّال ان رفع الدولار الجمركي في كانون الاول الماضي، زاد من حجم الاقتصاد الاسود وساهم في مزيد من التهرب الضريبي، «وإذا كان حجم القطاع الخاص الشرعي قبل الازمة يبلغ 75% مقابل 25% للقطاع غير الشرعي، فان المعادلة اليوم تبدلت واصبح القطاع الخاص غير الشرعي والاجنبي يعادل 70% من حجم الاقتصاد».
وفي الختام، سأل: كيف يمكن للدولة ان تتقاضى الرسوم والضرائب من المستهلك على سعر صرف الـ45 ألف ليرة في حين ان سحب الودائع مستمرّ على الـ15 ألف ليرة؟