ليس رياض سلامة وحده. تارّة كان الرجل مضيفاً على طائرة، أو قبطاناً يتخذ القرارات أو يهندس الطريق حيناً، ويتلقى التوجيهات من برج المراقبة. ليس رياض سلامة بأبعاد لبنانية فحسب، ولذلك انشغلت دول كثيرة بالسعي إلى محاكمته. وهو صاحب الأيادي المالية المتفرّعة شرقاً وغرباً. لذلك فإن مسألة توقيفه ليست عادية، هي مفاجأة بل صاعقة، لكنّها تطرح الكثير الكثير من التساؤلات. خصوصاً حول التوقيت، الأبعاد، التداعيات، والمسار القضائي الذي ستسلكه قضيته ومحاكمته. في اللحظة الأولى للتوقيف غسل الجميع يديه، وتُرك للقضاء أن يحكّم. المواقف المعلنة كلها تشير إلى إصرار على استكمال المسار القضائي. همس كبير يدور حول رفع الغطاء عنه، وبالتالي استكمال التحقيقات إلى النهاية.
حدث سياسي أولاً
في المقابل، قلق من احتمال اللجوء إلى محاكمته في لبنان كخيار أفضل من محاكمته في الخارج، لا سيما أن الرجّل يوصف بالصندوق الأسود، أو حافظ أسرار لبنان ومنظومته السياسية والمالية، وما يتفرع منها من تشعبات والتفافات وهندسات عابرة للحدود. توقيف رياض سلامة في بلد مثل لبنان هو حدث سياسي بالدرجة الأولى، قبل أن يكون قضائياً أو إجرائياً. وعليه، تُطرح التساؤلات حول التوقيت والخلفيات، وما يدور على هوامشها من كلام كثير حول ضغوط دولية كبيرة على لبنان بسبب “اقتصاد الكاش”، وتصنيفه على اللائحة الرمادية، لأن الفساد مستشر ولم يتم توقيف أي مسؤول، مع تهديدات بقطع علاقة المصارف اللبنانية مع المصارف المراسلة في الخارج. ولتجنّب ذلك، لا بد من تقديم الفدية، فكان سلامة هو الخيار.
في السياسة أيضاً، فإن بقاء الرجل في موقعه طيلة هذه السنوات كان عبارة عن قرار سياسي داخلي خارجي، يشير إلى البقاء ضمن مسار مالي واقتصادي واضح، قبل مجيء الانهيار الكبير والذي يفترض به أن ينذر بتغيير كبير لا بد له أن يطرأ على هذا المسار. وهو ما لم يقتنع به حتّى الآن الكثير من اللبنانيين، على صعيد كشف مكامن الخلل والفساد، وتحميل المسؤوليات لسد الفجوة أو الهوة المالية، ربطاً بإعادة هيكلة المصارف والقطاعات المالية والنقدية والاقتصادية، مع ما يعنيه ذلك من إعادة هيكلة سياسية للبلاد ككل.
رهينة لا شريك
يُفترض بالتحقيق الجدّي معه أن يكشف الكثير من الأسماء والوجوه والمؤسسات، ولطالما كان هذا من الكبائر في تركيبة النظام السياسي اللبناني. قيل سابقاً الكثير عن تهريب سلامة لوثائق وتسجيلات حول ما يمتلكه من معلومات، على أن يتم استخدامها حالما يُضحى به أو يتمّ التخلي عنه. يبقى ذلك احتمالاً قائماً. وبحال حدث وفعلها، فلا بد من ترقّب المسار القضائي والسياسي المواكب. علماً أنه في مثل هذه الحالات والتي قد يجد فيها المرء نفسه في خانة “عليّ وعلى أعدائي”، فإن من تخلّى عنه أو أعداءه يُفترض أن يتعاطوا معه كرهينة لا كشريك، مع ما يستوجبه منطق الرهائن، أي أن يكون هو قيد التحقيق ولكنه يبقى مهدداً بما لديه خارج القضبان، فلا يعود قادراً على البوح بما لديه.
لا يمكن للبنانيين الإفراط في التفاؤل، إزاء ما يمكن للتحقيقات أن تكشفه بما يخص فضيحة أو فضائح العصر. ومن الممكن أن المُراد تحقيقه في هذا المجال، هو طي صفحة بتقديم الأضحية، والتخلص من سيف مسلط على الأعناق، في لحظة مفصلية سياسياً، اقتصادياً، مالياً وعسكرياً.. فيشكل توقيف الرجل كمتنفس للناس المحتقنة بفعل الأزمات وتواليها، من دون أن يتحمّل أي طرف مسؤوليته في ما اقترف.
العبرة بالنتائج
يمكن لتوقيف رياض سلامة أن يشكل منعطفاً أو تحولاً في المسار اللبناني السياسي والمالي والنقدي. بالتأكيد أن هناك محظوراً قد سقط، وأغطية رفعت، لكن العبرة تبقى بالنتائج. وإذا كان هذا التوقيف سيسهم في تكبير كرة الثلج وتكرّ السبحة، أم أنه سيكون دفعة سياسية على دفتر حساب مفتوح للداخل والخارج، خصوصاً على أبواب استحقاقات دستورية تسعى بعض القوى السياسية إلى التقارب مع بعضها البعض، لنسج تفاهمات وخلق تقاطعات. لا سيما أن المنتصر الأكبر بالمعنى السياسي من توقيف سلامة هو التيار الوطني الحرّ، والذي يعتبر انتصاره متأخراً ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وانتصاراً لقاضية مقرّبة منه هي غادة عون طُلب كفّ يدها عن ملف التحقيق مع سلامة.
فهل سيتم طي صفحة من صفحات دفتر الفواتير، على طريق إعادة خلق تفاهمات أو تقاطعات سياسية أو رئاسية جديدة، خصوصاً أن المسار السياسي والديبلوماسي يتنشط لبنانياً بعد تراجع نسبي لمنسوب المواجهات العسكرية؟