شكّل قرار المدعي العام التمييزي بالتكليف القاضي جمال الحجّار بتوقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة تطوّراً مهماً في واحدة من بين عدة دعاوى مرفوعة بحقّ سلامة وشركاته وشقيقه رجا سلامة بين لبنان وأكثر من دولة أوروبية، كما أنّه أعاد تحريك القضايا المالية في البلد بعد بضعة أيام من الهجوم الذي نفّذه المودعون على المصارف في منطقة الدورة.
لمدة 3 ساعات في قصر العدل في بيروت، استمع القاضي الحجّار لسلامة في قضية شركة “أوبتيموم”، إذ توجّه إليه تُهمة اختلاس أكثر من 40 مليون دولار أميركي من الأموال العامة، قبل إعلان إيقافه احترازياً ثم نقله من قصر العدل إلى نظارة التوقيف في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. وأوضح القاضي الحجار أنّ “الخطوة القضائية التي اتُخذت بحق سلامة هي احتجاز احترازي ومفاعيلها لمدة 4 أيام على أن يُحال بعدها من قِبل استئنافية بيروت إلى قاضي التحقيق الذي يستجوبه ويتخذ القرار القضائي المناسب بحقّه ومن ضمن هذه الإجراءات قد تكون مذكرة توقيف وجاهي”.
على وقع إعلان قرار التوقيف، أكّد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير العدل احترامهما القرار القضائي. فيما علّق رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل على الأمر بدعمه قرار القاضي ومذكّراً بما حاول فعله التيار من أجل المحاسبة المالية، كما أعرب النائبان التغييريان وضاح الصادق ومارك ضو عن دعمهما للقرار.
في المقابل، أكّدت رين عبود، وهي حالياً الرئيسة التنفيذية لشركة “أوبتيموم”، لـ “رويترز” أنّ “الشركة لم تستدعَ إلى جلسة اليوم في ما يتعلّق بتعاملاتها مع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. الشركة سمعت بتوقيف سلامة من وسائل الإعلام وأجرت تدقيقاً مالياً في وقتٍ سابقٍ هذا العام لتعاملاتها مع مصرف لبنان المركزي ولم تجد أيّ دليل على ارتكاب الشّركة أي مخالفات”.
علماً أنّ سلامة وأفراد من عائلته سبق وأن تعرّضوا إلى عقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، أفضت إلى تجميد أصولهم وأملاكهم في هذه البلدان. وتُعَدّ هذه المرة الأولى التي يَمثل فيها سلامة أمام القضاء منذ انتهاء ولايته كحاكم للمصرف المركزي اللبناني في 31 تموز 2023. فبحسب “فرانس برس” يُتهم سلامة من قِبل القضاء اللبناني في هذه القضية تحديداً ” بجمع أكثر من 110 ملايين دولار عبر جرائم مالية شملت شركة الوساطة المالية اللبنانية أوبتيموم إنفست”.
منذ 3 أعوام، يُشكل سلامة مِحوَر تحقيقات محلية وأوروبية تَشتبه بأنّه جمع أصولاً عقارية ومصرفية بشكل غير قانوني، وأساء استخدام أموالاً عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا عن تحويله الأموال إلى حسابات في الخارج و”الإثراء غير المشروع”.
وبناء على التحقيقات، كانت قاضية فرنسية والمدعية العامة في ميونيخ أصدرتا العام الماضي مذكّرتَي توقيف بحقه جرى تعميمهما عبر الإنتربول. وقرّر القضاء اللبناني بناءً عليهما منعه من السفر وصادر جوازَي سفره اللبناني والفرنسي. لكنّ النيابة العامة في ميونيخ ألغت في حزيران مذكرة التوقيف بحق سلامة، لأنّه “لم يَعُد يشغل منصب حاكم مصرف لبنان المركزي، بالتالي لم يَعُد هناك أي خطر بإتلاف أدلة”، لكنّ القرار لا يعني أنّ التحقيق انتهى.
ما هي قضية “أوبتيموم”؟
كان تقريراً لشركة “ألفاريز آند مارسال”، المكلّفة التحقيق بحسابات مصرف لبنان، قد كشف عن بيع سندات بين مصرف لبنان وشركتَي “فوري” (المملوكة من سلامة وشقيقه) و”أوبتيموم” (صاحبة امتيازات في تداول سندات “يوروبوندز”)، فأشار التقرير إلى عمليتَين مشبوهتَين مع الأخيرة ولم يُعرَف عن عمليات أخرى بسبب تمنّع المصرف المركزي عن تسليم الملفات لشركة التحقيق. لكنّ “أوبتيموم” أعلنت لاحقاً تعاقدها مع شركة “كرول” لدحض الاتهامات الموجّهة إليها، غير أنّ تحقيق “كرول” كشف عن 45 عملية مشبوهة تمّت عبر توقيعَي رياض سلامة وأنطوان سلامة (رئيس مجلس إدارة “أوبتيموم”) بين عامَي 2015 و2018، مقابل تحويل عمولات (الفروقات أو ارتفاع أسعار السندات) تتراوح بين 25% و239% إلى حساب خاص لطرف ثالث.
وكشف التقرير أنّ مصرف لبنان منح خطوط ائتمان للشركة لشراء أوراق وأدوات مالية (سندات خزينة وشهادات إيداع…) ثم اشتراها منها لاحقاً بأسعار مختلفة. علماً أنّ خطوط الائتمان حصراً مبرّرة بالمادة 102 من قانون النقد والتسليف، التي تنصّ على “أنّه يُمكِن لمصرف لبنان أن يمنح قروضاً قابلة للتجديد في حالات الضرورة لمرة واحدة، على أن تكون مكفولة بسندات تجارية لا تتجاوز مدة استحقاقها السنة”. وبالمجمل وصلت قيمة خطوط الائتمان إلى 13 تريليون ليرة (بسعر 1500 ليرة للدولار) أي حوالي 8,6 مليار دولار، أما العمولات فبلغت نحو 12 تريليون ليرة (8 مليارات دولار).
وتوجّه الأصابع عن نتيجة القيام بهذه العمليات بين مصرف لبنان وبعض المصارف وشركات التداول المالية إلى أواخر 2016 عندما كفّ المصرف المركزي يد هيئة الأسواق المالية عن التدقيق في عملياته مع “أوبتيموم”، إثر تقارير للهيئة وضعت اليد على شبهات.
بحسب تقرير “كرول، إنّ المجلس المركزي القديم وافق على بيع “أوبتيموم” سندات (مع كامل العوائد المتعلقة بها) وفي الوقت عينه أعاد شراء هذه السندات من دون العوائد ومجموعها 8 مليارات دولار، غير أنّ هذه العوائد لم تبقَ في “أوبتيموم” بل عادت إلى مصرف لبنان بشكل عمولة. بكلامٍ آخر، مثلاً البنك المركزي أقرَضَ “أوبتيموم” مبلغاً ثم باعها سنداً بالمبلغ عينه، لكنّه تقاسم الأرباح معها بالإضافة إلى أنّ الشركة المالية أعادت بيع السند إلى مصرف لبنان بمبلغ آخر، ممّا ساهم بجزء من الهندسات المالية التي أطفأت بعد الخسائر التي سقط فيها المصرف المركزي منذ العام 2016. أي أنّ المصرف المركزي أرسل الأرباح التي يتوقّع استردادها، على شكل عمولات يمكن تحصيلها في الحال، فأدخل بعضها سريعاً في حساباته لإطفاء الخسائر.
لكن بحسب أصول المحاسبة لا يمكن القيام بمثل هذه العمليات، إذ يُشتبه بكونه تحايلاً وتزويراً بيانات المحاسبة في المصرف المركزي. علماً أنّ “ألفاريز آند مارسال” لحظت، كما “كرول”، تحوّل في كل عملية عمولةً استعادها المركزي، لكن بدل أن تُسجّل في ميزانيّته، فإنّها دخلت على حساب ثم خرجت منه لصالح أطراف ثالثة، ممّا يعني حصول اختلاس.
بكلامٍ آخر، إنّ “أوبتيموم” ضاعفت فوترة العمولات خلال تداولها الأوراق المالية وسندات الـ “يوروبوندز”، واعتمدت هوامشَ أعلى من المتفق عليها، وأعلى من نظام العمولات المعمول به. بالتالي، مارست الشركة البيع على المكشوف، لأنّها كانت تبيع أوراقاً مالية لا تملكها في الوقت المحدّد للتداول، فخرقت الثقة وكبّدت عملاءها مبالغ طائلة بغير وجه حق، واعتمدت أسعاراً غير المتفق عليها وأعلى من الشروط التجارية المتفق عليها”.