في مقابلاته التلفزيونيّة، يبدي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الكثير من التعفّف والزهد، بما يخص احتمالات بقائه في منصبه بعد انتهاء ولايته، في أواخر الشهر الحالي. وفي المحادثات البعيدة عن الأضواء، يرد سلامة ببعض الاستهزاء، على ما يُقال عن احتمال بقائه كمستشار أوّل أو “ملهم” لنائبه الأوّل وسيم منصوري، في حال شغور منصب الحاكميّة واستلام منصوري مهام الحاكم، كما ينص قانون النقد التسليف. ما يريد الرجل تسويقه أمام الرأي العام، هو أنّه سيطوي صفحة من حياته بمجرّد انتهاء ولايته، لينطلق “خارج المصرف”، كما أشار في إحدى المقابلات منذ أشهر.
لكن بعكس كل هذه الصورة، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على أنّ الحاكم يبحث عن الأدوات التي تسمح بإبقائه “حاجة” للمنظومة السياسيّة التي تحميه. وهذه المؤشّرات لا تتصل فقط بالمناورات التي يقوم بها نوّاب الحاكم، للإيحاء بإمكانيّة استقالتهم بشكل جماعي بعد نهاية ولاية سلامة، بل تتصل أيضًا بمؤشّرات نقديّة وماليّة مستجدة وشديدة الخطورة. باختصار، ثمّة ما يوحي بأن سلامة حضّر العدّة التي تسمح بالتلاعب بالوضع النقدي قبيل انتهاء ولايته، ليتكامل ذلك مع التهويل الإعلامي الحاصل، والابتزاز الذي يمارسه نوّاب الحاكم، لفرض دور ما لسلامة في مصرف لبنان بعد نهاية الشهر الحالي.
سلامة يتلاعب بالكتلة النقديّة
في الأسبوع الأوّل من الشهر الحالي، شهدت أرقام الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان، أي حجم السيولة المتوفّرة بالنقد الورقي، زيادة بنحو 6.49 ألف مليار ليرة لبنانيّة. وفي خلال الفترة نفسها، شهد حجم السيولة المتداولة بالليرة في الحسابات المصرفيّة غب الطلب زيادة بنحو 16.65 ألف مليار ليرة لبنانيّة. وفي النتيجة، ارتفع إجمالي المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة، الذي يشمل القيمتين معًا، بأكثر من 23.14 ألف مليار ليرة لبنانيّة.
بعد كل هذه الزيادات، ارتفع حجم المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة من 111.9 ألف مليار ليرة، كما كان الحال في نهاية الشهر الماضي، إلى 135 ألف مليار ليرة، في نهاية الأسبوع الأوّل من هذا الشهر، وفقًا لأرقام مصرف لبنان نفسها.
أي بصورة أوضح، وخلال فترة أسبوع واحد فقط، ازداد حجم المستوى الأوّل من الكتلة النقديّة بنسبة 21%، في تطوّر غامض وغير مفهوم على الإطلاق. وكما هو معلوم، ترتبط الزيادات في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة بشكل وثيق بالضغط على قيمة العملة المحليّة، طالما أنّ زيادة في حجم النقد المتداول بالليرة سينعكس تلقائيًا في طلب إضافي على الدولار النقدي في السوق.
من الصعب الجزم بأسباب هذا التطوّر، في ظل الغموض الذي يخيّم على السياسة النقديّة المعتمدة من قبل المصرف المركزي، وتحديدًا من جهة آليّة عمل منصّة صيرفة، التي يتم يستخدمها لضخ السيولة بالليرة أو الدولار في السوق. لكنّ السيناريو الأكثر ترجيحًا، هو أنّ يكون حاكم مصرف لبنان قد اختار –قبيل انتهاء ولايته- أن يضخ كميّة كبيرة من السيولة بالليرة في السوق، بهدف شراء كميّة موازية من النقد بالعملة الصعبة، وهو ما يفسّر الارتفاع المفاجئ في سعر صرف الدولار يوم أمس السبت. وللسبب نفسه، من المتوقّع أن يستمر هذا التطوّر بالضغط على سعر صرف الليرة طوال الأيّام المقبلة، فيما سيمسك الحاكم خيط إفلات أو ضبط سعر الصرف من خلال منصّة صيرفة نفسها.
الاستنتاج المنطقي الوحيد هنا هو أنّ الحاكم قرّر اللعب بنار سعر الصرف، في الأيّام الأخيرة من ولايته، ليبدأ باستخدام ورقة الضغط الأساسيّة التي يمكلها، والمتمثّلة بإمكانيّة تدهور قيمة الليرة بمجرّد مغادرته منصبه في نهاية الشهر. وهذه اللعبة، تنسجم بشكل مثالي مع الأجواء الإعلاميّة المشحونة، التي حذّرت من عدم اقتناع نوّاب الحاكم بآليّات عمل منصّة صيرفة، ومن إمكانيّة إيقاف عمل المنصّة بعد مغادرة سلامة، وهو ما قد يطيح وبشكل مفاجئ بتوازنات العرض والطلب على الدولار في السوق.
مناورات نوّاب الحاكم
بالتوازي مع كل هذه التطوّرات، تستمر المناورات التي يقوم بها نوّاب الحاكم، والتي تصب جميعها في خانة واحدة، وهي خلق بيئة ضاغطة تهوّل من احتمال مغادرة سلامة منصبه قبل تعيين حاكم جديد للمصرف. آخر تلك المناورات، تمثّلت في التقارير الإعلاميّة التي جرى تسريبها مؤخرًا، والتي أشارت إلى إمكانيّة إدخال تعديلات على آلية عمل المنصّة قبيل انتهاء ولاية سلامة، لعدم اقتناع نوّاب الحاكم بالآليّة الراهنة. وكما كان متوقّعًا، ساهمت كل هذه التسريبات في المزيد من الضغط على سعر صرف الليرة يوم أمس السبت، ما زاد على الضغوط الموجودة أساسًا بفعل تضخّم حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة.
وفي الوقت نفسه، تسرّبت خلال الأيّام الماضية بشكل موازٍ أنباء عن إمكانيّة تقديم النوّاب الأربعة استقالاتهم يوم غد الإثنين، إذا لم يحصلوا على “ضمانات تشريعيّة” من مجلس النوّاب، تسمح لهم بالتوسّع في ممارسة صلاحيّاتهم. وجاءت هذه الأنباء قبل تسريب أخبار مضادّة تنفي حصول هذا السيناريو يوم غد، ما زاد من التخبّط الذي تشهده سوق القطع حاليًا. مع الإشارة إلى أنّ كلام نوّاب الحاكم يتركّز حاليًا على صعوبة إدارة المرحلة المقبلة بغياب الإصلاحات والصلاحيّات، رغم أنّهم غير معنيين –من ناحية الدور والمسؤوليّة- بأي تغيير ستشهده الحاكميّة في نهاية الشهر المقبل، باستثناء النائب الأوّل للحاكم الذي يفترض أن يتولّى صلاحيّات الحاكم في حال شغور هذا المنصب (راجع المدن).
في جميع الحالات، من المفترض أن تحسم الأيّام القليلة المقبلة مصير حاكميّة المصرف المركزي، التي تتأرجح بين التخبّط المتعمّد في قيمة الليرة اللبنانيّة، والألاعيب التي تضغط على سوق القطع، والتهويل غير المفهوم الذي يمارسه نوّاب الحاكم الأربعة. أمّا المسألة الوحيدة التي مازالت تحول دون المضي بسيناريو التمديد لسلامة، أو حسم بقائه في المصرف بصيغة ما، فليست سوى الضغط الخارجي على رئيس الحكومة، وتحديدًا من جهة الدبلوماسيّة الفرنسيّة، التي ما زالت تدفع حتّى اللحظة باتجاه طوي صفحة رياض سلامة.