اللقاء الشهري بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف كان عنوانه القروض المتعثّرة. المصارف طالبته بالتساهل في تصنيف الزبائن، فيما هو كان يبرّر تراجع التسليفات بقيمة 4 مليارات دولار بأن الزبائن تسدّد القروض من ودائعها… في الخلاصة يُظهر محضر اللقاء أن سلامة يتعامل مع الأزمة المالية في لبنان بـ«التمنّيات»!
رغم كل محاولات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إظهار رباطة جأش، ربما لعلمه بأن محضر اللقاء الشهري مع المصارف يتسرّب إلى الإعلام، إلا أنه خرجت منه مؤشرات التي لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير. فهو يتحدث عن آماله بتراجع معدلات الفوائد انسجاماً مع احتمالات تراجع أسعار الفائدة الأميركية والأوروبية، وعن آماله بتحسن الأوضاع مع موسم صيف وسياحة أفضل، وعن إيجابيات وضع ملف سكّة الكهرباء على الحلّ وعن قرب بدء التنقيب على الغاز في السنة المقبلة… كلها عبارة عن تمنيات وردت في محضر اللقاء إلى جانب وقائع سلبية أبرزها كشف حاكم «المركزي» عن تراجع في محفظة التسليفات بقيمة 4 مليارات دولار، واستبعاد إصدار أي سندات للاكتتاب بفائدة مخفضة، وإصراره على أن يكون تصنيف القروض المتعثّرة ضمن المهل المحدّدة.
لهجة التمنيات
عقد اللقاء الشهري بين سلامة والمصارف الجمعة الماضي. مسار اللقاء، وفق المحضر رقم 252، جاء كالعادة مع استهلال سلامة الحديث عن التطورات النقدية والمصرفية. تحدث عن «استقرار الأسواق في لبنان»، وعن قدرة مصرف لبنان على مواصلة سياسته النقدية لجهة استقرار «أسعار الصرف والفوائد». لكنه أعرب عن أمله في أن يستفيد لبنان من «توجه المصارف المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا إلى الحفاظ أو خفض معدلات الفوائد، ولو بطريقة غير مباشرة» أملاً أن «تتحسن السيولة فتتراجع في اثرها الفوائد».
واستعرض نتائج زيارته الأخيرة إلى الخارج والتي «كان لها وقع إيجابي على نظرة المستثمرين» مستدلاً على أن «أسعار الأوراق اللبنانية تحسّنت وكلفة التأمين عليها كذلك»، رغم أن «المردود المرتفع عليها يعكس المخاطر وهذا طبيعي». كذلك أمل سلامة في «أن تتحسن الأوضاع مع موسم صيف وسياحة أفضل».
ومن «الإيجابيات» التي تحدث عنها سلامة أيضاً، أن سقوط العديد من مصادر الدخل في مشروع الموازنة في لجنة المال والموازنة النيابية، «سيتم تعويضه بأبواب دخل أخرى»، لافتاً إلى أن «جهداً جدياً» يبذل للوصول إلى نسبة عجز 7.65% (نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي)». ولم يكتف بذلك، بل أعلم المصارف ”أن المعطيات لديه بالنسبة للإنفاق والعجز خلال الفترة الأولى من العام الجاري تظهر انضباطاً جيداً. فالواقع ليس كما تصوره بعض وسائل الإعلام».
أيضاً، ذكّر سلامة بوضع ملف الكهرباء على سكّة الحلّ «وأن مستثمرين أجانب بمن فيهم الأميركيون يسألون عن موضوع الكهرباء، ويضفي قرب بدء التنقيب على الغاز عام 2020 المزيد من الإيجابية».
مؤشرات سلبية
إلى جانب هذه التمنيات، برز كلام سلامة عن «تراجع في محفظة التسليفات بحدود أربعة مليارات دولار»، مبرّراً هذا الأمر بالإشارة إلى أن التراجع «يعود في معظمه إلى سداد قروض مقابل ودائع».
كلام سلامة يظهر مسألة تراجع التسليفات على أنها ردّ فعل طبيعي، فيما هي تعكس الحال المزرية التي يمرّ بها الاقتصاد اللبناني الذي لم يحقق نموّاً إلا بنسبة 0.25% السنة الماضية والتوقعات تشير إلى تقلصه بنسبة 1% في 2019. وتراجُع التسليفات، معطوفاً على سياسة التقشف الحكومية، يعني أن الاقتصاد متجه إلى المزيد من الركود وربما الانكماش. كذلك يوحي الكلام المنسوب إلى سلامة بأن المقترضين ميسورون ولا تبدو عليهم مؤشرات المعاناة… ربما يكون جزء من هذا التلميح صحيحاً قياساً على معدلات الاقتراض وتركّزها بيد القلّة الميسورة، إلا أن هذا لا يلغي وجود انكماش اقتصادي حاد يدفع الشركات إلى التخفيف من كلفة ديونها بعدما ارتفعت أسعار الفوائد إلى مستويات مرتفعة جداً، وهي استخدمت ودائعها من أجل تخفيف هذه الكلفة، ولا يلغي أيضاً حقيقة أن الكثير من المقترضين يعانون من الأوضاع الضاغطة ومخاوفهم من التخلف عن السداد وتصنيفهم على اللائحة السوداء للمقترضين.
هذا الأمر كان واضحاً في مطلب الجمعية المتصل بتصنيف الديون. فالجمعية طلبت إعطاء مقترضي الإسكان بالليرة الذي يعدّون بمعظهم من فئة الموظفين «فترة سداد إضافية إذا كانوا يواجهون صعوبات في التسديد بسبب الأوضاع القائمة…». وردّ سلامة بأنه «ليس ممكناً إقرار تدبير عام، بل المطلوب التعامل مع هذه القروض حالة حالة». ويضيف المحضر: «تمت الملاحظة أن التصنيف في حالة القروض التجارية يكون بعد 90 يوماً من التخلف عن السداد، بينما هي 180 يوماً للقروض السكنية حيث يؤخذ في الاعتبار كذلك النسبة المسدّدة من القرض خاصة إذا تخطّت 50%».
وأثارت جمعية المصارف ”الأوضاع الصعبة التي تعاني منها الصناعة اللبنانية لجهة تراجع صادراتها من 4 مليارات دولار إلى ملياري دولار، ولجهة توفّر العملات الصعبة لاستيراد المواد الأولية وسائر مدخلات الإنتاج وصعوبات التمويل أيضاً»، فردّ الحاكم مؤكداً «عدم إصدار أي تدابير عامة متمنياً على المصارف التعامل مع ملفات التسليف للصناعيين حالة حالة، ولجنة الرقابة على المصارف ستكون متعاونة في التعامل مع الحالات الفردية، كما بالنسبة لقروض الإسكان». وبالنسبة لتوفير العملات الصعبة لاستيراد المواد الأولية، قال الحاكم إن «التمييز بين القطاعات غير ممكن علماً بأن حجم الاستيراد ارتفع بشكل كبير في السنوات الأخيرة وبات ضرورياً وضع ضوابط في ما خص وجهة الاستعمال الأخيرة».
ما يقوله سلامة واضح. يجب على المصارف أن تعالج التسليفات للزبائن كل حالة على حدة، والاتجاه هو لكبح توفير العملات الصعبة في السوق. هذا الأمر يعكس حقيقة ظهرت في عجز ميزان المدفوعات بقيمة 3.3 مليارات دولار في الأشهر الأربعة الأولى من السنة الجارية، بما يعنيه ذلك من هروب التدفقات بمعدل أعلى من دخولها إلى لبنان. العملات الصعبة تخرج من لبنان بقيمة أكبر من تلك التي تدخل… هذه هي أزمة لبنان التي يتعامل معها سلامة بالتمنيات.
خدمة الدين «من العب للجيبة»
للمرة الثانية أثارت المصارف مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ما أعلنه وزير المال علي حسن خليل لجهة إصدار سندات بفائدة 1% بقيمة 11 ألف مليار ليرة ستكتتب بها المصارف ومصرف لبنان. هذه المرّة «استبعد الحاكم كلية أي طرح باكتتاب بفوائد مخفضة من قبل المصارف في أدوات الدين العام علماً بأن مصرف لبنان لكونه أكبر مقرض للدولة سيعمل مع وزارة المال على خفض خدمة الدين كما سبق وأقدم عليه كبنك مركزي من دون أن تكون المصارف معنية بذلك مباشرة أو غير مباشرة». كلام سلامة يعني أن خدمة الدين العام ستنتقل «من العب إلى الجيبة». وهي ستكون ظاهرة في الموازنة العامة، ولكنها ستكون مخفية في ميزانية مصرف لبنان.