لم تكن يوماً مقوّمات الصمود ملقاة على عاتق الدولة، بل كانت الدولة مجرّد قناة لتمويل قوى السلطة وتمكينها من التوزيع على أزلامها وطوائفها ومناطقها. هذه القناة تحديداً لم تعد متاحة بعد الإفلاس. فلا الدولة قادرة على تسيير خطوط إنقاذ صحّي، ولم تكن يوماً قادرة على إيواء آلاف حالات النزوح المتوقعة أو تقديم تعويضات مالية ووجبات مجانية، بل كان هناك انقسام عمودي حيال التعاطي مع أي معركة عسكرية تخاض على الحدود اللبنانية… ببساطة، المقوّمات معدومة مهما بلغ عدد الاجتماعات التحضيرية لها
يقول الوزير السابق شربل نحاس في مقابلة سابقة مع «الأخبار» إن تأمين التكيّف مع الأزمة المصرفية والنقدية استلزم إنفاق 40 مليار دولار بين 2019 و2023، أي بمعدل 10 مليارات دولار سنوياً. نصف المبلغ أتى من موجودات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية، وقسم منه أتى على شكل تحويلات من المغتربين إلى ذويهم المقيمين في لبنان، بالإضافة إلى قسم آخر مصدره الأموال التي ضخّتها دول لمؤسّسات محلية أو من منظمات دولية لمساعدة السوريين النازحين. وهذا المبلغ يساوي ضعفين ونصف ضعف الناتج المحلي الإجمالي. ولو جرى استثماره، فإن استرداد قيمة رأس المال، أو إعادة تكوينه، يتطلب سنوات كثيرة.
كان بإمكان مبلغ كهذا أن يشكّل قاعدة صلبة لمعالجة الأزمة بكاملها، ابتداءً بالتعامل مع الودائع، وصولاً إلى تنشيط اقتصاد لديه مقوّمات الصمود وإمكانات الازدهار في المستقبل. لا يمكن أن يتمّ أمر كهذا إلا إذا قرّرت قوى السلطة أن تعفي نفسها من استعمال الدولة كقناة لتوزيع المغانم والموارد، أي توظيف الأموال في تمويل خدمات عامة؛ على رأسها الصحة والتعليم والنقل المجانيّة، وتوجيه التمويل العام والخاص نحو نشاطات تخلق وظائف محلية وتدرّ إيرادات بالعملة الأجنبية. فمقوّمات الصمود تصبح جاهزة عندما يُنتَشَل لبنان من أزمته. وهذا تحديداً ما يجعل قوى السلطة اليوم تملأ الفراغ باجتماعات تحضيرية متتالية تناقش فيها تقديراتها عن احتمالات شنّ العدو حرباً على لبنان. لنأخذ مثلاً ما يردّده رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في مجالسه عن أن الدفاع المدني ليس لديه اعتمادات كافية لتغطية ثمن كميات من الوقود لسياراته التي ستتحرّك لانتشال مصابين أو ضحايا. ولننظر إلى انعدام الإمكانات التي برزت يوم انهيار مبنى المنصورية، إذ تطلّب انتشال الضحايا من تحت الركام أياماً. وهذا مجرّد تمرين بسيط عن امتحان أصعب بكثير. فالطبابة والاستشفاء عاملان أساسيان أثناء أي حرب، لكن في لبنان انعدمت التغطية الصحية التي كانت تُؤمَّن عبر قنوات الزبائنية المعروفة باسم «صناديق التغطية الصحية» وتُموَّل بشكل أساسي من خزينة الدولة. فما رُصد في موازنة 2023 ضمن الإطار الوظيفي للاستشفاء العام والخاص يبلغ 24059 مليار ليرة أو ما يساوي 270 مليون دولار. وهذا مبلغ زهيد جداً مقارنة مع الحاجات في أوقات الحرب إذا اعتبرنا أنه لن يدخل إلى المستشفيات سوى مصابي الحرب ومن دون أي اعتبار لكلفة ما بعد الحرب. صحيح أن المستشفيات ستكون ملزمة باستقبال الحالات، لكن لا يمكن اعتبار أن القطاع الخاص الذي تبلغ حصّته من المبلغ 95.5% والذي يبغى الربح، سيتعامل بموضوعية وإنسانية مع كل الحالات. أما الضمان الاجتماعي الذي كان يفترض أن يكون سنداً أساسياً للتغطية الصحية بعدما كان يملك أكثر من 12 مليار ليرة يوم كان الدولار يساوي 1507 ليرات، فإن هذه الأموال لا تساوي الآن أكثر من 135 مليون دولار حالياً. بمبالغ كهذه، مقارنة مع ما أنفقته السلطة خلال السنوات الأربع الأخيرة، كان يمكن تأمين التغطية الصحية الشاملة والمجانية لسنوات.
أيّ حرب ستضع ضغطاً هائلاً على الخدمات العامة المتهالكة أصلاً. الكهرباء مثلاً. فهل ناقش ميقاتي أو أيّ من القوى السياسية زيادة ساعات التغذية مثلاً. وزير الطاقة وليد فياض وحده يحاول القيام بذلك، وهم يحاولون منعه، فكيف إذا أصبح الثقل الاستهلاكي متركّزاً في مناطق محدّدة من بيروت وجبل لبنان؟ وهل ناقش ميقاتي أو أيّ من قوى السلطة كيفية التعامل اليومي مع النفايات التي سيخلّفها التركّز السكاني الناتج من النزوح؟ هل ناقش ميقاتي أو أيّ من قوى السلطة مصير البطالة المتزايدة أصلاً بفعل الأزمة المصرفية والنقدية؟
في هذا السياق، يصبح جزء أساسيّ من مقوّمات الصمود ملقى على عاتق الأفراد بشكل أساسي، وبالتالي سيتحتّم على المغتربين تمويل ذويهم بدولارات أكثر. ثم سيكون هناك دور أساسيّ لـ«المزاريب الخارجية»، أي ما يسمّى مساعدات من دول عربية وأجنبية ومنظمات دولية. هذه الدول والمنظمات هي انتهازية أصلاً، وستعمل على فرض شروطها على لبنان مقابل «المساعدة»، كما أنه لا شيء يمنع من تقنين مساعداتها اللاحقة للحرب ربطاً بهذه الشروط. وسيترتّب على قوى السلطة الانسجام مع متطلّبات الجهات المانحة والتخلّي عن حصّتها في الزبائنية لجهات خارجية أو على الأقل مشاركتها في هذه الحصّة. وانعكاس ذلك على موازين القوى المحلية سيكون واضحاً، إذ سيزداد الشعور بالغبن لدى الفئات التي لديها تمويل خارجيّ أقل من غيرها أو تلك التي ليس لديها وصول إلى التمويل الخارجي.
إذاً، ما الهدف من خطّة الطوارئ والاستعدادات التي تقوم بها قوى السلطة طالما أنها مفلسة مادياً ومنقسمة سياسياً؟ حتى الآن، لا يبدو أن قوى السلطة لديها جدول أعمال منفصل عن الإنكار الذي مارسته تجاه الأزمة المصرفية والنقدية. فمنذ أربع سنوات، تتموضع هذه القوى في زوايا التراشق حول التعامل مع الأزمة من دون أيّ تقدّم. أطلقت شعارات مثل «الودائع مقدّسة» وبنت عليها أوهاماً لإرساء قواعد التكيّف وتنظيم فترة الانتظار، وتكبّدت في المقابل نحو 40 مليار دولار، نصفها من السيولة الاحتياطية لدى مصرف لبنان ونصفها الآخر من السيولة المتدفقة إلى لبنان. إنكار حقيقة عجزها عن مواجهة توزيع خسائر الأزمة المصرفية والنقدية، موازٍ لإنكار حقيقة عجزها عن مواجهة أيّ طارئ مثل الحرب. لذا يعمد ممثلو السلطة إلى ملء الفراغ بالاجتماعات المناسبة التي يقولون فيها إنهم يُعِدّون خططاً وقائية، ويختمون اجتماعاتهم بالتعبير الضمني عن مجموع عجوزاتهم بالإشارة إلى أنهم يطلبون من أصدقاء لبنان منع انخراط حزب الله في الحرب. تهريب طائرات الميدل إيست، أو تأمين مخزون من الأدوية والمستلزمات الطبية، أو الوقوف على حجم مخزون المواد الغذائية ليس «خطّة وقائية» كما وصفها ميقاتي. أصلاً، هذه التدابير هي للتعامل مع مجريات الحرب ونتائجها، وليس للوقاية منها. العجز الأكبر سيكون في التموضع السياسي لهذه القوى أثناء الحرب وبعدها، وأيضاً في مرحلة ما بعد الحرب حين تظهر استحقاقات الأكلاف المادية المباشرة والأكلاف الاقتصادية والاجتماعية. هذه السلطة بدّدت 40 مليار دولار خلال أربع سنوات من دون أفق لأيّ علاج، بينما إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية لم تكلّف سوى 7 مليارات دولار. هذه السلطة مفلسة وتملأ الفراغ بالاجتماعات المناسبة فقط.