هل سيتهاوى المصرفيون المتورطون بملفات الفساد كأحجار الدومينو أمام التحقيقات الاوروبية ولا سيما الفرنسية الجارية على قدم وساق، في إطار تحقيق قضائي يتعلّق بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وآخرين؟ آخر هذه الانهيارات توجيه القضاء الفرنسي لائحة اتهامات إلى رئيس مجلس إدارة “بنك الموارد”، والوزير اللبناني السابق مروان خير الدين، تشمل تكوين جماعة إجرامية بهدف اختلاس أموال عامة من قبل موظف عمومي (سلامة) على حساب الدولة اللبنانية، وإساءة الأمانة والرشوة، بالاضافة الى توقع التحقيق مع المصرفي سمير حنا (بنك عوده)، كونه من المتورطين ربما في ملف الحاكم سلامة وشقيقه رجا وعدد من المقربين منه.
لا شك في أن التحقيقات الاوروبية خطوة مهمة لهزّ عروش المنظومة السياسية والمصرفية. لكن من الجدير البحث عن تأثيراتها على القطاع المصرفي، الذي يعاني من تشوّه كبير في سمعته لبنانياً وعالمياً، لدرجة أن تعبير أو توصيف “بنكرجي” أصبح أقرب الى شتيمة نتيجة عمليات الفساد الممنهجة التي ارتكبها العديد من القيمين عليه، وتسببت بانهيار مهول للقطاع وأزمة اقتصادية ومالية ونقدية غير مسبوقة في تاريخ لبنان.
وضع حدّ للبربرية
تعتبر الباحثة في القوانين المصرفية والمالية الدكتورة سابين الكك لـ”نداء الوطن”، أن “التحقيقات الاوروبية جاءت لتضع حداً للبربرية التي يتعاطى فيها القطاع المصرفي، وكأنه فوق كل القوانين والانظمة سواء داخل أو خارج لبنان”، لافتة الى أن “المفارقة هي أن السلطة القضائية في لبنان، لم تظهر الى الآن الا تعاطياً سلبياً مع الازمة (باستثناء حالات نادرة)، في الوقت الذي من المفروض أن يكون القضاء هو الحامي الاول والاخير لحقوق المودعين والمجتمع اللبناني”.
تضيف: “هذه التحقيقات ستظهر ضعف السلطة القضائية في لبنان وانحيازها للمنظومة الحاكمة. أما القطاع المصرفي فمن الواضح أن التعاطي معه سواء أكان على المستوى الاميركي أو الاوروبي، هو تعاطٍ حذر يشوبه الكثير من الضغوط المستمرة على القطاع”، مشيرة الى أن “الاميركيين والاوروبيين لا يترددون في اظهار ملفات الفساد، وبأن هناك تقاطع مصالح بين المنظومة السياسية والمصرفية والتجارية. وهذه التحقيقات ستضع حداً لعملية التفلت والبربرية التي يتعاطى بها المصرفيون والسياسيون مع المجتمع اللبناني”.
تشدّد الكك على أن “هذه الخطوة لا تكفي ويجب أن يكون تعويلنا على القضاء اللبناني لوضع الامور في نصابها. لأنه لا يمكن الاتكال على الخارج في اي عملية تصحيح واعادة هيكلة يمكن ان تحصل على كل المستويات المصرفية والمالية والسياسية في لبنان”، موضحة أن “ردات الفعل على هذه التحقيقات من قبل المنظومة السياسية، لا يزال فيها الكثير من الانكار والمراهنة على العوامل السياسية، ولا شك في ان هذه المتغيرات يمكن ان تلعب دوراً في تحرك القضاء الاجنبي. لكن في المشهد اللبناني، فالمنظومة الحاكمة لم تعد تستطيع ان تكمل بنفس الاشخاص والصورة النمطية والزبائنية التي كانت موجودة قبلاً”.
وترى أن “التغيير سيحصل في طريقة تعاطي السياسيين والمصرفيين مع الملفات، لا سيما في موضوع السرية المصرفية، وعمليات تبييض الاموال التي كانت تحصل من قبل المنظومة وليس فقط من قبل اناس عاديين”، مشددة على أن “التغيير سيحصل على الاقل بما ينفع ويخدم مصالح الدول الغربية، والسؤال هو هل هذا الامر مفيد لنا نحن كلبنانيين، للسير على السكة الصحيحة للاصلاح؟”.
وتختم: “التحقيقات الاوروبية هي عامل ضغط، لكنها وحدها لا تكفي للاستفادة من هذا التصحيح. داخلياً يجب أن يحصل ضغط ويجب أن يتحرك القضاء ويجب ان تحاسب الناس هذه المنظومة، في كل استحقاق سياسي قادم حتى نحصد الفائدة المرجوة. هذا الضغط سبق أن عاد بالنفع على اللبنانيين لأنه، على سبيل المثال لا الحصر، عطل عملية اقرار قانون كابيتال كونترول هجين”.
لا حسيب لدينا ولا رقيب
التحقيقات ستزيد من سوء سمعة المصارف، يشرح المحامي راضي بطرس لـ”نداء الوطن” أن “التحقيقات الحاصلة في أوروبا بحق مصرفيين لبنانيين هي بناء على معلومات تقدمت للقضاء اللبناني والاوروبي، وهناك معلومات تقدمت للقضاء الاوروبي ولم تتقدم للقضاء اللبناني”، لافتاً الى أن “المشكلة هي أن هذه التحقيقات ستزيد سمعة المصارف اللبنانية غرقاً في الحضيض أكثر. لكن المشكلة الاساسية هي ان اجهزة الرقابة في لبنان معطلة ومغيبة، فالمخالفات تحصل في كل دول العالم، لكن هناك أجهزة رقابية تسعى دائماً للحد من هذه المخالفات، أما في لبنان وبسبب غياب أي دور فاعل لهذه الاجهزة، فالمصارف اللبنانية كررت المخالفات مراراً من دون حسيب او رقيب”.
يضيف: “تدخل القضاء اللبناني في هذا الملف زاد الامور تعقيداً وتفاقماً، وأخذ أبعاداً اكبر في ظل الازمة الاقتصادية الحاصلة في لبنان والعالم. والمشكلة حالياً، لا تتعلق بمصرف واحد، والتحقيقات ستظهر تباعاً المتورطين أكثر”، مؤكداً “التحقيق في حوالات 150 مليون دولار بواسطة بنك الموارد، كما تبين ان شركة “M1″ التابعة للرئيس نجيب ميقاتي لها علاقة بالقضية بشكل ما. وكلما يتم الغوص في التحقيقات أكثر كلما ظهرت كوارث ومتورطون أكثر”.
يرى بطرس أنه “يجب فتح باب التسويات على غرار ما حصل في فرنسا، حيث تمّ فتح المجال للمختلسين باعادة الاموال المختلسة لقاء تسوية وضعهم القانوني مع الدولة، وهذا أمر حصل في أكثر من بلد وتمت حماية قطاعات كبيرة في بلدان مثل فرنسا وايطاليا والفلبين”، مشدداً على أن “القطاع المصرفي اللبناني سيتأثر سلباً لناحية التصنيفات بعد هذه التحقيقات، علماً بأن السلطة السياسية ممسكة بزمام الملفات ومتحكمة بها لا تشعر بالضغط لدرجة قبول التنازل والقيام بتسويات”.
ويختم: “التحقيقات الاوروبية يمكن ان تفتح باباً لتسوية ما، لكن لا اعتقد ذلك قريباً في ظل الازمة المالية اللبنانية والعالمية. لا شيء يبشر بالخير وفي حال لم يتحرك لبنان قضائياً في هذه الملفات، فهو لن يضمن حقه في الحصول على الاموال المهدورة”.
إرهابي أم «بنكرجي»؟
«كان على اللبناني في الثمانينات من القرن الماضي اثبات انه غير ارهابي للحصول على فيزا او اقامة في دولة اوروبية، أما اليوم فعليه اثبات انه ليس بنكرجياً»، بهذه الفكاهة يتحدث مصرفي عن مجريات الاحداث الحالية والمتصلة بتحقيقات تطال مصرفيين لبنانيين في عدد من الدول الأوروبية. ويضيف: «لم نعد في كثير من الحالات نعرّف عن انفسنا في دول كثيرة حول العالم كمصرفيين لبنانيين. ان صورة المصرفي اللبناني تدنت كثيراً لا بل اصبحت محل شبهة واتهام». فالإعلام الغربي المتابع لقضايا تبييض الأموال التي يُتهم بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وآخرون مقربون منه على الأراضي الأوروبية، معطوفة على ما اطلقت عليه جريدة اللوموند الفرنسية بانه «سرقة العصر» لتوصيف سرقة الودائع، بات قصة عالمية من نوع خاص وغريب لم يحدث لها مثيل في العالم. وينقل عن أحد المحققين الأوروبيين الذين وفدوا الى لبنان للتحقيق مع عدد من المصرفيين انه، وفي ختام جلسة استجواب طويلة ومرهقة، قال: «أي مافيا هذه»؟!
لا مصارف مراسلة كما يدّعون
عن سمعة مصارف لبنان وكيف تلطخت على الصعيد العالمي، يذكر انه لم يعد هناك الا مصارف مراسلة قليلة جداً تتعامل مع بنوك لبنان، ولا ينطبق عليها توصيف “مراسلة” عملياً لأنها لا تغطي اعتمادات ولا تفتح حسابات لتغطية عمليات الا بعد التأكد من وصول التحويل اليها من المصرف اللبناني المعني. اي ما يعرف بالتعامل الفوري “كاش”، وليس هناك فترات سماح ولا تحويلات بالنيابة تنتظر تغطية مراكز لاحقاً، بل هي عبارة عن تحويلات فورية أشبه بعمل شركات حوالة الاموال.
وهناك تضييق على عدد من فروع مصارف لبنانية في الخارج كما فعلت قبرص عندما طلبت من مصارف لبنانية هناك تغطية الودائع التي لديها لعملاء بنسبة تزيد على 100% لقلة الثقة بها وبإداراتها، وهناك على سبيل المثال ايضاً تحقيقات تطال مصرفاً او اثنين لبنانيين في سويسرا.
“فوري” مفتاح فساد أكبر
لنتذكر ان أساس القضية متصل بعمولات بنحو 330 مليون دولار حصدتها شركة فوري المملوكة (ظاهرياً؟) من رجا سلامة شقيق رياض سلامة حاكم مصرف لبنان. وفي التحقيقات الاوروبية كما اللبنانية شبهات تحوم حول تلك المبالغ وما اذا كانت اختلاساً موصوفاً للمال العام أنتج “ثروة غير مشروعة”عادت الى رياض سلامة نفسه، واشترى بها اصولاً وفتح حسابات وأجرى عمليات في عدد من الدول الأوروبية، إذ تتحدث مصادر 3 دول أوروبية عن مبالغ تراوح بين 500 مليون وملياري دولار هي عرضة للتدقيق في مصادرها. بيد أن التحقيقات قد تتوسع الى ما هو ابعد من “فوري” كما حصل مع بنك الموارد الذي تبين فيه، بالنسبة للمحققين، ان أموالاً لرجا ورياض سلامة تضاعفت على نحو مريب وغريب (كما تؤكد تحقيقات الاوروبيين) وانها سحبت عشية الأزمة في الوقت الذي كان فيه سلامة يؤكد للبنانيين ان الليرة بخير. وعند التدقيق في الكشوفات تبين ان هناك اسئلة مشروعة عن دقتها وصحتها وما اذا كان ذلك الحساب ممراً أيضاً لتبييض الأموال. كما وعلى الهامش هناك سحوبات لنجل رياض سلامة من بنك الموارد تحولت الى الخارج، حصلت بين تشرين الاول وكانون الاول 2019 في الوقت الذي كان فيه والده يطلب من المصارف عدم التحويل الى الخارج الا للضرورة. وهناك أيضاً تحقيقات مع بنوك مثل عوده والاعتماد اللبناني وسرادار والمتوسط وبنك مصر ولبنان في ما خص الأموال التي عادت من حسابات رجا سلامة في سويسرا الى بيروت، ثم خرجت منها مبالغ طائلة الى شقيقه رياض ابرزها عبر شيكات صادرة عن بنك البحر المتوسط اصبحت بحوزة محققين اوروبيين. وأي توسع في تلك التحقيقات كما حاول ان يفعل القاضي جان طنوس بشكل جيد سيفتح ملفات الفساد المصرفي من عدة جوانب وليس من زاوية “فوري” الضيقة فقط.