بات على المصارف السوريّة، التي أودعت أو استثمرت أموالًا في النظام المالي اللبناني، أن تحتسب كل تلك التوظيفات كخسائر كاملة، وبنسبة مئة بالمئة. وفي الخلاصة، ستُشطب هذه المبالغ من الميزانيّات. ولهذا الغرض، سيكون على المصارف السوريّة، وخلال فترة لا تتجاوز الستّة أشهر، أن تُعد خطّة كاملة لإعادة الهيكلة، والتخلّص من أعباء الأزمة الماليّة اللبنانيّة. من الناحية التقنيّة، وضع المصرف المركزي السوري خريطة الطريق لإنجاز هذه المسألة، بداية من تكوين المخصّصات الماليّة التي ستسمح بالتعامل مع هذه الخسائر. وهذا يقتضي طبعاً البحث عن مصدر ما، ما سيفرض بحث المصارف السوريّة، المنكشفة على أزمة لبنان، عن رساميل جديدة: إما عبر ضخ المساهمين الحاليين سيولة جديدة، أو عبر استقدام مساهمين وشركاء جدد.
لكن بعيداً عن اللغة التقنيّة التي أوردها قرار المصرف المركزي، كما نقلته وكالة رويترز يوم أمس، ثمّة أسئلة حول خلفيّات هذه الخطوة على مستوى “الاقتصاد السياسي”. ويمكن صياغة هذا السؤال على النحو التالي: كيف يمكن أن يغيّر القرار خريطة القطاع المصرفي السوري على المدى الأبعد؟ وهل سيكون له تداعيات على القطاع المصرفي اللبناني، وأزمته؟
الإجابة الواضحة اليوم، تشير إلى أنّ فروع المصارف اللبنانيّة، في سوريا، هي الأكثر انكشافًا على الخسائر التي يتحدّث عنها مصرف سوريا المركزي. وهي التي ستضطر مستقبلاً لإدخال مساهمين، ومشاركة رخصها مع أطراف أجنبيّة أخرى، ما لم تتمكن من تأمين سيولة إضافيّة لتغطية الخسائر. وهذا ما يقوله المصرفيون اللبنانيون، بصريح العبارة. أمّا الوضعيّة الماليّة لمصارف لبنان نفسها، فلن تتأثر. وهي الغريق فما خوفها من البللِ.
وضعيّة المصارف اللبنانيّة في سوريا
مراجعة سريعة للأرقام، تُظهر سبب امتعاض المصرفيين اللبنانيين من قرار المصرف المركزي السوري. فعدد الرخص الممنوحة للمصارف الخاصّة التجاريّة والاستثماريّة والإسلاميّة في سوريا،لا يزال محدوداً بـ 14 رخصة. وحضور الكيانات السوريّة، المملوكة من مصارف لبنانيّة، لا يزال واضحاً للعيان: يمتلك فرنسبك لبنان 48% من فرنسبنك سوريا، ويسيطر لبنان والمهجر على 49% من أسهم بنك سوريا والمهجر، وبيمو لبنان يستحوذ على 49% من بيمو السعودي الفرنسي في سوريا، وفيرست ناشيونال بنك لا يزال يحتفظ بحصّة 7% من بنك سوريا والخليج… وهكذا دواليك.
فصلت المصارف اللبنانيّة ميزانيّاتها وعمليّاتها عن كل ما له علاقة بالشأن المصرفي السوري. قبل الـ 2019، كان ذلك خوفاً من تأثير العقوبات. ثم أصبحت هذه الخطوة مفيدة لتلافي الخلط ما بين الأزمة الماليّة في لبنان، والوضعيّة الماليّة للكيانات السوريّة. وتركت المصارف اللبنانيّة حضورها السوري من خلال ملكيّة حصص في الكيانات السوريّة، بانتظار اليوم الذي تسمح فيه الظروف بإعادة التوسّع في سوريا.
لكن هذا الفصل المحاسبي والشكلي، لم يكن كاملاً. فالكيانات السوريّة، المملوكة جزئياً من مصارف لبنان، لعبت في الماضي دور القناة التي وجهت الأموال السوريّة إلى لبنان. إذ إنّ جزءًا من الودائع والاستثمارات في تلك الكيانات السوريّة، جرى توظيفه بأشكال مختلفة في المصارف اللبنانيّة. هذا “الانكشاف” على مخاطر القطاع المصرفي اللبناني، ورّط الكيانات السوريّة في خسائر ناتجة عن أزمة لبنان الماليّة.
قيمة هذا الانكشاف كبيرة، ولا يُستهان بها. وتبلغ بحسب أرقام المصرف المركزي السوري 1.6 مليار دولار، من أصل ودائع تُقدّر بنحو 4.9 مليار دولار. والأكثر غرقاً في هذا المستنقع، هي الكيانات المملوكة من مصارف لبنان، التي تمتلك قدراً أكبر من الترابط ما بين وضعها المالي والوضع المالي اللبناني. وتماماً كما فعلت المصارف الأم في لبنان، تفادت الكيانات السوريّة الاعتراف بهذه الخسائر في ميزانيّاتها، وتركتها في قائمة الموجودات كأصول قائمة بالفعل.
السباق على القطاع المصرفي السوري
السوق المصرفيّة السوريّة عطشى لاستثمارات جديدة في القطاع المالي، وخصوصًا مع بدء اندماج البلاد التدريجي في النظام المالي العالمي. ومن المتوقّع طبعاً أن تشهد سوريا تسابقاً على رخص الكيانات المصرفيّة الجديدة، فيما ستحدّد هذه الرخص خريطة وشكل القطاع المصرفي السوري المستقبلي، وهويّة الجهات الأكثر تأثيراً فيه.
مصادر مصرفيّة لبنانيّة تتوقّع أن تعجز معظم الكيانات المصرفيّة السوريّة، المملوكة من مصارف لبنان، عن تأمين الرساميل المطلوبة لإطفاء الخسائر التي يتحدّث عنها المصرف المركزي السوري، ما سيفرض إدخال شركاء جدد في هذه الكيانات. وبعد أن باعت العديد من المصارف اللبنانيّة كياناتها الشقيقة في العراق ومصر والأردن، ستتجه إلى خسارة موقعها الاستراتيجي في السوق السوريّة.
لا يُلام المصرف المركزي السوري على هذا القرار. فلا يوجد سلطة نقديّة ترغب بالمحافظة على مصارف “زومبي” تمتلك خسائر غير معترف بها. والمصارف اللبنانيّة تمتلك مميّزات تنافسيّة، كان يمكن أن تسمح لها بالتوسّع في السوق السوريّة. لكنّ وضعيّتها الماليّة في لبنان، وموجبات إعادة الرسملة التي تنتظرها هنا، لن تسمح لها بلعب دور إيجابي كبير في السوق السوريّة. أمّا الأهم، أن التجربة السابقة لإداراتها، سواء في لبنان أو في سوريا، لا تشجّع على منحها الثقة الكاملة في الفترة المقبلة، كما لا تشجّع على التضحية بتحمّل خسائرها في سوريا.



