المؤكد، اليوم، أن البطالة بلغت معدلات قياسية. بحسب تقديرات وزارة العمل اللبنانية، وصل هذا المعدل عام 2020 الى نحو 36%، ويرجّح أن يبلغ 41.4% نهاية 2021، فضلاً عن «شبه البطالة» التي يعيشها كثيرون ممّن بقوا في وظائفهم مع خفض ساعات عملهم وتقليص رواتبهم. أضف إلى ذلك اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين الذين تراجعت الأعمال في القطاعات التي يعملون فيها.
تعدّ البطالة المعبّر الأبرز عن الأزمة البنيوية لنموذج الاقتصاد الريعي القائم، وخصوصاً منذ انتهاء الحرب الأهلية، على ركيزتين أساسيتين: أولاهما إنتاج العمالة محلياً من خلال الاستثمار في التعليم العالي وتصديرها إلى الخارج (بلغ عدد المهاجرين عام 2019 أكثر من 66 ألفاً بحسب «الدولية للمعلومات»)، وثانيتهما الاستفادة من عوائد التدفقات المالية في نشاطات اقتصادية ريعية، كالعقارات والأدوات المالية وتمويل استهلاك السلع والخدمات، من دون إنتاج في الاقتصاد الحقيقي، واعتماد سياسات الاقتصاد الكلي الليبرالية التي تقوم على حضور أقل للدولة مع منسوب عالٍ من الهدر والفساد، ما قضى على ما تبقى من قطاعات إنتاجية وصناعية قليلة كانت موجودة قبل الحرب الأهلية.
هذا النموذج خلق، بحسب مؤلف كتاب «سوق العمل وأزمة التشغيل في لبنان» الاقتصادي نجيب عيسى، وظائف متدنية الإنتاجية تتركز في قطاع الخدمات، لا تتطابق فيها المهارات المتوافرة مع الطلب على أنشطة لا تحتاج إلى عمالة ماهرة، بحسب عيسى، «كان سوق العمل قبل الأزمة يستقبل نحو 40 ألف وافد جديد سنوياً، معظمهم من ذوي الشهادات الجامعية أو المهنية في مقابل 10 آلاف فرصة عمل متدنّية الإنتاجية لا تؤمن مردوداً يتواءم ومؤهلات هؤلاء، ففضّلوا البقاء عاطلين من العمل في انتظار فرصة للهجرة». فيما غطّت العمالة الأجنبية غياب هؤلاء. هكذا شغل السوريون، حتى قبل الحرب السورية، أعمالاً بأجور زهيدة في قطاعَي البناء والزراعة.
لكن دراسة حديثة لمنظمة العمل الدولية شملت الفئات الثلاث الأكثر حرماناً من اللبنانيين والنازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين المقيمين في 251 منطقة سكنية من الأكثر ضعفاً في البلاد، أظهرت أن الانهيار الاقتصادي لم يوفر هؤلاء. فقد أدى تراجع النشاط الاقتصادي إلى انخفاض الطلب على العمالة في هذه القطاعات، وبلغت معدلات البطالة بين اللاجئين السوريين 40.1%، رغم أن 95% من هؤلاء من العمال غير النظاميين. كما أن عدم دفع رواتب العمال الأجانب بالدولار أدى إلى انخفاض العمالة الأجنبية وهجرتها.
في السياق نفسه، برزت «مشاريع» تصنيعية لتغطية وقف استيراد بعض السلع بعدما أصبحت خارج متناول الفئة الأعظم من اللبنانيين ممن فقدت رواتبهم قيمتها الشرائية. و«ازدهرت»، بعد الأزمة، صناعات غذائية كالألبان والأجبان ومواد التنظيف… لكن هذه الصناعات، بحسب عيسى «حل انتقالي وليست الحل على المدى المتوسط والبعيد لأن كل البنى الاقتصادية الزراعية والصناعية اللبنانية متقادمة وبحاجة إلى تحديث، رغم أهمية طرق كل الأبواب في محاولة للجم التدهور».
بحسب منظمة العمل الدولية، فإن تحسين نتائج سوق العمل يتطلب الانتقال من اقتصاد يعتمد على الاستيراد إلى اقتصاد موجّه للتصدير، «وهذا ليس سهلاً، ويتطلّب مجموعة من السياسات الضريبية والصناعية والقطاعية والاقتصاد الكلي، من بين أمور أخرى»، وفق منسقة البرامج الوطنية في المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية آية جعفر. مع ذلك، «من المهم بذل الجهود لتحديد نقاط الدخول إلى انتقال ناجح».
وتوصي منظمة العمل الدولية، بحسب جعفر، بوضع سياسة توظيف وطنية شاملة تركّز على خلق فرص عمل لائقة، تأخذ في الاعتبار اتجاهات العمل المستقبلية. وتنمية ومطابقة المهارات، والحماية الكافية للعمال، وسياسات جمركية تمنع استيراد بعض الصناعات التي يمكن إنتاجها محلياً وتشجيع الاستثمارات والبنى التحتية. وتشمل القطاعات التي يمكن أن تخلق فرص عمل في لبنان: البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات وصناعة المعرفة والاقتصاد الأخضر والسياحة الريفية والمحلية.