منذ العام 2016، أقرّ لبنان القوانين التي تسمح بتنفيذ اتفاقيّة التبادل التلقائي للمعلومات لغايات ضريبيّة، التي وقّع عليها لبنان تحت وطأة تهديده بإخراجه بالعقوبات والعزلة عن النظام المالي العالمي. بمعنى آخر، لم يدخل لبنان هذه الاتفاقيّة إلّا على قاعدة “مكره أخاك لا بطل”، خصوصاً كون الاتفاقيّة مسّت بقدس أقداس النظام المالي اللبناني: مبدأ السريّة المصرفيّة. فحسب هذه الاتفاقيّة، سيكون على لبنان التصريح لكل دولة أجنبيّة موقعة على المعاهدة عن داتا الحسابات داخل المصارف اللبنانيّة التي تخص المقيمين في هذه الدولة، حتّى لو كان هؤلاء من اللبنانيين المغتربين المقيمين في الدول الأجنبيّة. وفي المقابل، سيحق لوزارة الماليّة في لبنان الحصول على داتا الحسابات الموجودة في المصارف الأجنبيّة، والتي تخص مقيمين على أرضه. وهذا بالتحديد ما لا يريد أقطاب الحكم أن يحصل لبنان عليه اليوم، لكونه سيفضح كتلة الأموال التي خرجت من لبنان إلى جميع مصارف العالم، قبل وبعد العام 2019.
أمّا المثير للاهتمام هنا، فهو أن إسم لبنان يرد في التقرير كإحدى الدول العشر التي انضمت سنة 2021 إلى قائمة “الشركاء”، الذين يتبادلون المعلومات المصرفيّة مع سويسرا. وهو ما يدفعنا إلى السؤال عن إمكانيّة استفادة الدولة اللبنانيّة من هذه الآليّة لتتبّع الأموال التي هرّبها لبنانيّون إلى المصارف السويسريّة. لا بل ويمكن لنا السؤال عن إمكانيّة وجود كل هذه المعلومات حاليّاً بحوزة وزارة الماليّة اللبنانيّة، طالما أنّ مبدأ المعاهدة ينص على “التبادل التلقائي للمعلومات”، ما يفرض على سويسرا تقديم جميع داتا المصارف السويسريّة التي تخص المقيمين في لبنان، من دون أن يحتاج لبنان إلى تقديم أي استفسار بخصوص أي حساب.
لكن هذا التفاؤل سرعان ما يتبدّد، حين يكشف التقرير أن لبنان يكتفي حالياً بتسليم سويسرا المعلومات التي تخصّها من داخل النظام المصرفي اللبناني، في حين أن لبنان لا يتلقّى أي معلومات تخص الحسابات التي يملكها المقيمين فيه داخل المصارف السويسريّة. أما السبب، فهو ببساطة عدم توفّر “متطلّبات سريّة وأمن البيانات لدى الجانب اللبناني”، أو بعبارة أوضح: عدم تأمين الدولة اللبنانيّة التجهيزات التي يحتاجها حفظ وحماية هذه المعلومات. ولهذا السبب، لا يمكن للبنان أي يستفيد من شراكته هذه مع سويسرا بأي شكل من الأشكال.
ما كشفه اليوم التقرير السويسري هو أنّ الدولة اللبنانيّة، ورغم مرور أكثر من خمس سنوات على إقرار القوانين التي تسمح بتطبيق هذه المعاهدة، لم تقم بأبسط الإجراءات المطلوبة منها لتلقي المعلومات التي تخص حسابات المقيمين لديها في المصارف الأجنبيّة. وهذا التقصير المتعمّد والمشبوه، لا يمكن تفسيره إلا بسعي المسؤولين اللبنانيّين إلى تفادي حصول لبنان على هذا النوع من المعلومات، خصوصاً أن لبنان قام في المقابل بتأمين جميع مستلزمات التصريح عن الحسابات الموجودة داخل المصارف اللبنانيّة، والتي تخص مقيمين في دول أجنبيّة. باختصار، كل ما أراده المسؤولون في لبنان هو إخفاء الودائع التي أخرجها اللبنانيون لتستقر في المصارف الأجنبيّة، لكونها كانت ستكشف –في حال التصريح عنها- حجم الأموال المشتبه في مصدرها، أو تلك التي تم تهريبها من النظام المصرفي بعد حصول الانهيار المالي سنة 2019.
على أي حال، ما كشفه التقرير السويسري يتعدّى مسألة طمس داتا المصارف السويسريّة. فعدم امتلاك الدولة اللبنانيّة مستلزمات حفظ البيانات وحمايتها يعني ببساطة أنها تفوّت على نفسها اليوم فرصة الحصول على داتا الحسابات المصرفيّة من جميع دول العالم، لا سويسرا فقط. مع الإشارة إلى أن متابعة مسألة الحصول على هذه الداتا، وتحضير قواعد البيانات وحمايتها، كان يفترض أن يكون من مهام وزارة الماليّة بالتحديد. كما كان من المفترض أن تستخدم الوزارة هذه الداتا الثمينة لأغراض الرقابة الضريبية، ومقارنة تصريحات الأفراد الضريبيّة بحجم الثروات التي يملكها هؤلاء فعلاً.
وفي مقابل تفويت فرصة الاستفادة من كل هذه المعلومات، التي يتيحها التوقيع معاهدة تبادل المعلومات، سيكون لبنان قد دفع ثمن التوقيع مكرهاً على المعاهدة من خلال إعطاء الدول الأخرى داتا الحسابات الموجودة داخل المصارف اللبنانيّة، والتي تخص المقيمين لدى تلك الدول، بما فيها تلك التي تخص المغتربين اللبنانيين المقيمين في الخارج. وهذه الداتا ستسمح للدول الأخرى بتتبع أموال هؤلاء المغتربين، وفرض الضريبة على أموالهم المودعة في المصارف اللبنانيّة، حسب النظام الضريبي لكل دولة، حتّى لو كانت الودائع حاليّاً محتجزة داخل النظام المصرفي اللبناني.
كل هذه التطوّرات تكشف عدم جديّة السلطة في موضوع متابعة الأموال المهرّبة إلى الخارج بعد 2019، أو الأموال المحوّلة والمشتبه في مصدرها قبل حصول الانهيار المصرفي، بل ونيّتها الحؤول دون انكشاف أي معطيات بخصوص هذا الملف. والسعي لطمس هذه المعطيات بدأ أساساً منذ نهاية العام 2019 بأساليب عديدة، منها على سبيل المثال طريقة تعامل مصرف لبنان مع هذا الموضوع، والتي احتكمت لتأكيدات وتقديرات المصارف بعدم وجود تحويلات مشتبه بها، في حين أنّ المصارف نفسها هي من كان يفترض أن تكون في موقع المتهم بإجراء تحويلات استنسابيّة، وتهريب ودائع لكبار النافذين بعد تشرين الأوّل 2019.
أما القضاء اللبناني، فراسل القضاء السويسري في أواخر عام 2019 بصيغة غريبة وغير جديّة، مستفسراً عن “وجود تحويلات مصرفيّة مشبوهة من لبنان”، مع مسبق علمه بأنّ القضاء السويسري لن يزوّد لبنان بأي معلومات من هذا النوع، ما لم يتضمّن الاستفسار أي تحديد للحسابات المستهدفة بهذا السؤال. أما الأغرب، فكان توجّه القضاء اللبناني إلى القضاء السويسري بهذه الاستفسارات، قبل التقصّي محليّاً عن التحويلات الصادرة من لبنان، وقبل البحث عن مصدر هذه الأموال ومدى ارتباطها بشبهات الكسب غير المشروع. وهكذا اقتصرت خطوات القضاء ومصرف لبنان على مجموعة من العراضات والمسرحيات، التي حاولت الإيحاءبسعيهما للتعامل مع هذا الملف. واليوم، يأتي التقرير السويسري ليثبت أن السلطة التنفيذيّة، وتحديداً وزارة الماليّة، لم تسعى جدياً إلى ما هو أكثر من ذلك، رغم توفّر أدوات التقصّي عن التحويلات من خلال الداتا التي يمكن الحصول عليها من معاهدة التبادل التلقائي للمعلومات للغايات الضريبيّة.