“سياسات” سلامة المسؤول الأول عن الانهيار المصرفي

تنشر «نداء الوطن» تباعاً بعض أجزاء التقرير الذي نشرته الجامعة الأميركية (معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية) وأعده الخبير المالي والمصرفي الدكتور توفيق كسبار، حول تقرير‭ ‬التدقيق‭ ‬ الذي ‭ ‬أجرته‭ ‬شركة‭ ‬(‬Alvarez‭ & ‬Marsal‭) ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬عن‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬2015‭ ‬و2020‭ ‬، وهو التقرير‭ ‬الرسمي‭ ‬الوحيد‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬جهة‭ ‬تدقيق‭ ‬خارجية‭ ‬في‭ ‬حسابات‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬منذ‭ ‬تأسيسه‭ ‬وبدء‭ ‬عملياته‭ ‬في‭ ‬العام ‬1964. وفي ما يلي الحلقة الأولى من التقرير:

مؤسسة مستقلة

مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬مؤسسة‭ ‬مستقلة‭ ‬تتمتع‭ ‬بالصلاحيات‭ ‬الأوسع‭ ‬بين‭ ‬المصارف‭ ‬المركزية،‭ ‬قانوناً‭ ‬وممارسة‭ .‬تناط‭ ‬سلطة‭ ‬وضع‭ ‬سياساته‭ ‬بالمجلس‭ ‬المركزي‭ ‬الذي‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬مستقلين‭ ‬ويرأسه‭ ‬حاكم‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي‭ .‬يستنتج‭ ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬الحاكم‭ ‬كان‭ ‬يدير‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بشكل‭ ‬أحادي‭ ‬معتمداً‭ ‬أساليب‭ ‬محاسبية‭ ‬اعتباطية،‭ ‬وخافياً‭ ‬خسائره‭ ‬المتزايدة‭ ‬تحت‭ ‬بنود‭ ‬نفقات‭ ‬مؤجلة‭ ‬وإيرادات‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬وعن‭ ‬غيرها. ‬لم‭ ‬يسائل‭ ‬أي‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬مسؤول‭ ‬حكومي‭ ‬أياً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الممارسات. ‬للمثال يذكر ‬التقرير‭ ‬أن‭ ‬مبلغاً ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬111‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬أميركي‭ ‬دُفع‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬عمولات‭ ‬غير‭ ‬مشروعة‭ ‬رفض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬تحديد‭ ‬المستفيدين‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬طبيعة‭ ‬المعاملات‭ ‬التي‭ ‬أنجزت‭ ‬وتبرز‭ ‬عمليات‭ ‬ومعاملات‭ ‬عدة،‭ ‬تقدر‭ ‬قيمتها‭ ‬بمئات‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات،‭ ‬استفاد‭ ‬منها‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬حاكم‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي‭ ‬نفسه‭. ‬

عجز 60 ملياراً

درج‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬ميزانيات‭ ‬بوضعيات‭ ‬مالية‭ ‬إيجابية،‭ ‬لكن‭ ‬التقرير‭ ‬كشف‭ ‬خسائر‭ ‬كبيرة‭ ‬مترتبة‭ ‬عليه. ‬وأموال‭ ‬خاصة‭ ‬سالبة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬صافي‭ ‬احتياطي‭ ‬بالعملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬سلبي‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬عجز‭ ‬مقداره‭ ‬60‭ ‬ مليار‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العام ‭ ‬2019. المذنب‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬»الهندسات‭ ‬المالية‮‬‭ «‬المكلفة‭ ‬التي‭ ‬نفذها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بإغراء‭ ‬المصارف‭ ‬لتحويل‭ ‬سيولتها‭ ‬بالدولار‭ ‬من‭ ‬المصارف‭ ‬الأجنبية‭ ‬المراسلة‭ ‬إلى‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭،‬ مقابل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬معدلات‭ ‬فائدة‭ ‬عالية‭ ‬وعلاوات‭ ‬غير‭ ‬اعتيادية‭.‬ فكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬انخفاض‭ ‬سيولة‭ ‬المصارف‭ ‬بالدولار‭ ‬بشكل‭ ‬حاد إلى‭ ‬نحو‭ %7 ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬العنصر‭ ‬الأهم‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ ‬المصرفي. ‬الانهيار‭ ‬المصرفي‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬سياسة‭ ‬الهندسات‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬انتهجها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬وشاركت‭ ‬فيها‭ ‬المصارف‭ ‬طواعية‭ ‬مسيئة‭ ‬إدارة‭ ‬سيولتها‭ ‬بالدولار‭ ‬وسياستها‭ ‬الائتمانية،‭ ‬فيما‭ ‬تكمن‭ ‬مسؤولية‭ ‬الحكومة‭ ‬اللبنانية‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الانهيار‭ ‬في‭ ‬فشلها‭ ‬المنهجي‭ ‬كسلطة‭ ‬رقابية‭ ‬على‭ ‬المصارف. ‬أما‭ ‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬اللبنانية‭ ‬فهو‭ ‬حدث‭ ‬منفصل‭ ‬نتج‭ ‬عن‭ ‬انعدام‭ ‬المسؤولية‭ ‬المالية‭ ‬للحكومة‭ ‬والممارسات‭ ‬الفاسدة‭.‬

إختفاء 25 مليار دولار

‬يكشف‭ ‬تحليل‭ ‬لمصادر‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية‭ ‬لدى‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬ووجهات‭ ‬استخدامها‭ ‬عن‭ ‬رصيد‭ ‬متبقّ‭ ‬لا‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬25‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬وغير‭ ‬قابل‭ ‬للتفسير‭ ‬محاسبياً. ‬ولكن‭ ‬يرجح‭ ‬أن‭ ‬المصارف‭ ‬اشترتها‭ ‬وحوّلتها‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬مساهميها،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬المؤسسات‭ ‬المصرفية‭ ‬نفسها. ‬منذ‭ ‬أواخر العام 2019 يشهد ‬لبنان‭ ‬سنة‭ ‬صفر‮‬‭ ‬مالية. ‬فالودائع‭ ‬المصرفية‭ ‬مجمدة‭ ‬عملياً،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬المودعون‭ ‬والمقيمون‭ ‬عموماً،‭ ‬يتحملون‭ ‬كل‭ ‬كلفة‭ ‬الانهيار‭ ‬المالي. ‬لم‭ ‬يتخذ‭ ‬أي‭ ‬إجراء‭ ‬تصحيحي‭ ‬رسمي،‭ ‬ولم‭ ‬يُحاسب‭ ‬أي‭ ‬مسؤول‭ ‬عام‭ ‬أو‭ ‬مصرفي،‭ ‬وتستمر‭ ‬المصارف‭ ‬المفلسة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬بشكل‭ ‬عادي،‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬فعلياً ‬‮«مصارف‭ ‬زومبي‮‬».

التعافي المالي ممكن

تقترح‭ ‬الدراسة‭ ‬إجراءات‭ ‬قانونية‭ ‬ومعيارية‭ ‬عاجلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬استعادة‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬أموال‭ ‬المودعين‭ ‬وإعادة‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي،‭ ‬وهو‭ ‬شرط‭ ‬ضروري‭ ‬للنمو‭ ‬الاقتصادي. ‬لكن‭ ‬مفتاح‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬وجود‭ ‬قيادة‭ ‬سياسية‭‬‮ «‬شريفة‮‬‭ «‬للبدء‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬العلاجات‭ ‬المعروفة،‭ ‬فيتبعها‭ ‬حكماً‭ ‬مسار‭ ‬طبيعي‭ ‬للتعافي‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬الجبهات‭.‬

التدقيق الجنائي

«التدقيق‭ ‬هو‭ ‬عرض‭ ‬للحقائق‭ ‬المالية‭ ‬وفقاً ‬لمبادئ‭ ‬المحاسبة‭ ‬المعتمدة،‭ ‬أما‭ ‬التدقيق‭ ‬الجنائي‭ ‬فيقوم‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬إذ‭ ‬يعاين‭ ‬السجلات‭ ‬المالية‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬مالي‭ ‬غير‭ ‬قانوني‭ ‬يمكن‭ ‬استخدامه‭ ‬كدليل‭ ‬في‭ ‬المحكمة‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬التقرير،‭ ‬وإن‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬كامل،‭ ‬نظراً‭ ‬لحجب‭ ‬البيانات‭ ‬والمعلومات‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان. ‬جاء‭ ‬رفض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬تقديم‭ ‬المعلومات‭ ‬المطلوبة‭ ‬تحت‭ ‬ذريعة ‬‮»‬السرية‭ ‬المصرفية‮»‬،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تكليف‭» ‬ألفاريز‭ ‬آند‭ ‬مارسال»‬‭ ‬رسمياً‭ ‬بالتدقيق‭ ‬وتعليق‭ ‬البرلمان‭ ‬قانون‭ ‬السرية‭ ‬المصرفية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬البرلمان‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬إكمال‭ ‬الشركة‭ ‬التدقيق‭ ‬الجنائي. ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬قانون‭ ‬السرية‭ ‬المصرفية‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬يغطي‭ ‬عادة‭ ‬المعلومات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالمودعين‭ ‬في‭ ‬المصارف،‭ ‬وليس‭ ‬المعلومات‭ ‬المصرفية‭ ‬الأخرى‭ ‬مثل‭ ‬النفقات‭ ‬أو‭ ‬القروض‭.

ومن‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬رفض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬تقديمها‭ ‬لشركة‬‮ «‬ألفاريز‭ ‬أند‭ ‬مارسال»‭ ‬نذكر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال: ‬توصيف‭ ‬عمليات‭ ‬منفذة‭ ‬والغرض‭ ‬منها‭ ‬المستفيدون‭ ‬من‭ ‬التحويلات‭ ‬المصرفية‭ ‬عبر‭ ‬نظام‭ ‬سويفت،‭ ‬وهويات‭ ‬منشئي‭ ‬العمليات‭ ‬وطبيعة‭ ‬كل‭ ‬منها كما انه لم يسمح بإجراء مقابلات شخصية مع موظفيه وقيادته.

ممارسة الصلاحيات

فشل‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬وتحديداً‭ ‬مجلسه‭ ‬المركزي‭ ‬المعني‭ ‬بحوكمته‭ ‬ووضع‭ ‬السياسات‭ ‬وبرئاسة‭ ‬الحاكم،‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬وتام‭ ‬في‭ ‬‬المهمتين‭ ‬الأساسيتين اي المحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬النقد‭ ‬اللبناني،‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬سلامة‭ ‬أوضاع‭ ‬النظام‭ ‬المصرفي‭ ‬وتطوير‭ ‬بنيته‭ ‬الأساسية،‭ ‬ويتفاقم‭ ‬هذا‭ ‬الفشل‭ ‬لكون‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمصارف‭ ‬المركزية‭ ‬الأخرى،‭ ‬مستقلاً ‬عن‭ ‬الحكومة‭ ‬ويتمتع‭ ‬بصلاحيات‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬الأوسع‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬المال‭ ‬والمصارف. ‬وبالفعل،‭ ‬يشير‭ ‬التقرير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بموجب‭ ‬القانون‬‮ «‬مستقل‭ ‬مؤسسياً‭ ‬ووظيفياً‭ ‬وشخصياً‭ ‬ومالياً».

ويتضمن‭ ‬قانون‭ ‬النقد‭ ‬والتسليف‭ ‬أيضاً ‬آليات‭ ‬إشرافية‭ ‬تمارسها‭ ‬مؤسسات‭ ‬أو‭ ‬أشخاص‭ ‬محددون‭ ‬يمكنهم‭ ‬مساءلة‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬في‭ ‬سياساته،‭ ‬وهم: المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬الذي‭ ‬يحدّد‭ ‬السياسة‭ ‬النقدية‭ ‬ووزير‭ ‬المالية‭ ‬والبرلمان‭ ‬ومفوض‭ ‬الحكومة. يتألف‭ ‬المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬أعضاء‭:‬ حاكم‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي،‭ ‬ونوابه‭ ‬الأربعة،‭ ‬المدير‭ ‬العام‭ ‬لوزارة‭ ‬المالية‭ ‬والمدير‭ ‬العام‭ ‬لوزارة‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتجارة‭.

بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬تعاين‭ ‬لجنة‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬المصارف‭ ‬الوضع‭ ‬المالي‭ ‬لكل‭ ‬مصرف‭ ‬على‭ ‬حدة،‭ ‬وتبلغ‭ ‬الحاكم‭ ‬بالنتائج‭ ‬التي‭ ‬تتوصل‭ ‬إليها. ‬وهي‭ ‬هيئة‭ ‬مستقلة‭ ‬يمكنها‭ ‬فرض‭ ‬إجراءات‭ ‬تصحيحية‭ ‬وعلاجية‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مصرف‭ ‬فردياً.

لكنه مارس إدارة أحادية على ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الجدران‭ ‬الحمائية‭ ‬القانونية‭ ‬والإشرافية،‭ ‬يذكر‭ ‬تقرير‭ ‬»ألفاريز‭ ‬أند‭ ‬مارسال‮‬‭ «‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد: ‬‮‬لم‭ ‬تحدد‭ ‬أي‭ ‬حالة‭ ‬طعن‭ ‬بقرارات‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الأشخاص‭ ‬أو‭ ‬المؤسسات‭ ‬المذكورة‭ ‬.

وأشار بشكل‭ ‬خاص‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المجلس‭ ‬المركزي‭ ‬كان‭ ‬غير‭ ‬فعال‭ ‬والحاكم‭ ‬نفسه‭ ‬مارس‭ ‬سلطة‭ ‬غير‭ ‬خاضعة‭ ‬لأية‭ ‬رقابة.

‭سياسات محاسبية غير تقليدية

‬لا‭ ‬تقدم‭ ‬البيانات‭ ‬المالية‭ ‬المنشورة‭ ‬صورة‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬المالي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‮ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تتعارض‭ ‬مع‭ ‬المنهجية‭ ‬الدولية‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬اعتباطية‭ ‬وغير‭ ‬متسقة،‭ ‬إذ‭ ‬طبق‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬إجراءات‭ ‬تدقيق‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬أحكام‭ ‬شخصية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬في ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالهندسات‭ ‬المالية‭.

لم‭ ‬يظهر‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬أي‭ ‬خسائر‭ ‬مالية‭ ‬في‭ ‬ميزانيته‭ ‬العمومية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الخسائر‭ ‬بدأت‭ ‬تظهر‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2002‭ ‬ على‭ ‬الأرجح،‭ ‬عندما‭ ‬توقف‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬عن‭ ‬نشر‭ ‬بيانات‭ ‬الربح‭ ‬والخسارة‭ ‬السنوية‭.

ولإخفاء‭ ‬خسائره‭ ‬التي‭ ‬تراكمت‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬50‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العام 2019 استحدث‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بنوداً‭ ‬لإيرادات‭ ‬مفترضة،‭ ‬كتلك‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة،‭ ‬وتأجيل‭ ‬دفع‭ ‬الفوائد‭ ‬المستحقة،‭ ‬وذلك‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالخسائر‭ ‬لحظة‭ ‬وقوعها‭ ‬.

هدفت‭ ‬الإجراءات‭ ‬المحاسبية‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬اتبعها‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬إلى‭ ‬خلق‭ ‬قيمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬وغيرها‭ ‬ واستخدامها‭ ‬لتعويض‭ ‬الفوائد‭ ‬المؤجلة‭ ‬والنفقات‭ ‬الأخرى‭ ،‬والربح‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة ‭ -‬وهو‭ ‬الشكل‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعاً – ‬هو‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬القيمة‭ ‬الاسمية‭ ‬لجميع‭ ‬العملات‭ ‬اللبنانية‭ ‬والكلفة‭ ‬الفعلية‭ ‬لطبعها.‭ ‬كما‭ ‬أضاف‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬بنوداً ‬أخرى‭ ‬وهي‭» ‬أرباح‭ ‬سندات‭ ‬الخزينة‭ ‬اللبنانية‮‬‭ ‬وأرباح «‬الاستقرار‭ ‬المالي‮»‬،‭ ‬ليصل‭ ‬مجمل‭ ‬الدخل‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬إلى‭ ‬نحو‭ ‬48‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬بحلول‭ ‬نهاية‭ ‬العام ‬2020.

‭ ‬ألغت ‬‮»‬ألفاريز‭ ‬أند‭ ‬مارسال‭ «‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الإيرادات‭ ‬المزعومة‭ ‬من‭ ‬البيانات‭ ‬المدققة‭ ‬المعدلة،‭ ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬انهيار‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬والانخفاض‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬قيمة‭ ‬الليرة‭ ‬منذ‭ ‬تشرين‭ ‬الأول‭ / ‬أكتوبر‭ ‬،2019‭ ‬كانت‭ ‬وقاحة‭ ‬المصرف‭ ‬المركزي‭ ‬واضحة‭ ‬باستمراره‭ ‬في‭ ‬تسجيل‭ ‬إيرادات‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬36‭ ‬مليار‭ ‬دولار‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬2020‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬طبع‭ ‬العملة‭ ‬والاستقرار‭ ‬المالي‭.

الشفافية

الشفافية غائبة ولم‭ ‬يكشف‭ ‬علناً‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬معلومات‭ ‬مهمة‭ ‬في ما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالوضع‭ ‬المالي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬ولا‭ ‬سيما‭ ‬خسائره بل ‬من‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬كان‭ ‬يصرح‭ ‬عن‭ ‬تحقيقه «‬أرباحاً‭ ‬كبيرة‮‬‭.»

عدلت‭ ‬عمليات‭ ‬التدقيق‭ ‬التي‭ ‬أجرتها‭ ‬‮‬»ألفاريز‭ ‬آند‭ ‬مارسال»‭ ‬بعض‭ ‬أرقام‭ ‬الميزانية‭ ‬العمومية‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬للفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬2015‭ ‬و2020‭ ‬ وفقاً‭ ‬لمبادئ‭ ‬التدقيق‭ ‬المعتمدة. ‬وأسفرت‭ ‬بالنتيجة‭ ‬عن‭ ‬توصيف‭ ‬أدق‭ ‬للوضع‭ ‬المالي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬تقدمه‭ ‬حساباته‭ ‬الخاصة،‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مؤشراته‭ ‬الرئيسة‭. ‬

إن‭ ‬حجم‭ ‬خسائر‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬وتدهور‭ ‬وضعه‭ ‬المالي،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ،‬2015‭ ‬تتضح‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مؤشراته‭ ‬الأساسية، ‬‭‬مثل‭ ‬الأموال‭ ‬الخاصة‭ ‬وصافي‭ ‬احتياطيات‭ ‬العملات‭ ‬الأجنبية. ‬إن‭ ‬التناقض‭ ‬بين‭ ‬الأرقام‭ ‬الفعلية‭ ‬والمعلنة‭ ‬صارخ‭.‬ أيضاً‭ ‬يكشف‭ ‬الوضع‭ ‬المالي‭ ‬الفعلي‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬عن‭ ‬سوء‭ ‬الإدارة‭ ‬الفاضحة‭ ‬ومسؤوليته‭ ‬عن‭ ‬انهيار‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭.‬ ووسيلته‭ ‬المعتمدة‭ ‬كانت‭ ‬‮ «هندساته‭ ‬المالية‮‬‭.» ‬

الانهيار المصرفي: كيف؟

ومَن المسؤول؟

‬يسود‭ ‬اعتقاد،‭ ‬بين‭ ‬السياسيين‭ ‬بشأن‭ ‬الانهيار‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬ويتكرر‭ ‬في‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أدلة‭ ‬رسمية‭ ‬منشورة‭ ‬سردية‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬تبرئ‭ ‬المصارف‭ ‬ومصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬وهي‭ ‬مصاغة‭ ‬كالتالي‭ :‬لقد‭ ‬وضع‭ ‬الناس‭ ‬أموالهم‭ ‬في‭ ‬المصارف،‭ ‬والمصارف‭ ‬وضعت‭ ‬الأموال‭ ‬في‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان،‭ ‬ثم‭ ‬أقرض‭ ‬مصرف‭ ‬لبنان‭ ‬الأموال‭ ‬للحكومة‭ ‬التي‭ ‬أهدرتها‭ ‬بالفساد،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ .‬لذلك،‭ ‬فإن‭ ‬الديون‭ ‬الحكومية‭ ‬والفساد‭ ‬هما‭ ‬سبب‭ ‬الانهيار‭،‬ هذه‭ ‬القصة‭ ‬خيالية‭ ‬ولم‭ ‬تشرح‭ ‬بالتفصيل‭ ‬ولا‭ ‬دعمت‭ ‬بحقائق‭ ‬ووقائع‭.‬ السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬للانهيار‭ ‬المصرفي‭ ‬هو‭ ‬السياسة‭ ‬النقدية‭ ‬والسبب‭ ‬الرئيس‭ ‬لانهيار‭ ‬الليرة‭ ‬اللبنانية‭ ‬هو‭ ‬السياسة المالية.‭ ‬‬الانهياران‭ ‬مختلفان‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬طبيعتهما‭ ‬وأسبابهما‭ ‬وتداعياتهما‭. ‬إن‭ ‬السياسة‭ ‬النقدية‭ ‬لمصرف‭ ‬لبنان‭ ‬أقله‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬2015‭ ‬والمعروفة‭ ‬بـ»‬الهندسة‭ ‬المالية‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬السياسة‭ ‬الرئيسة‭ ‬التي‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬الانهيار‭ ‬الكلي‭ ‬للقطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬في‭ ‬لبنان. ‬أما‭ ‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬فظاهرة‭ ‬مختلفة،‭ ‬والواقع‭ ‬أنه‭ ‬حصل‭ ‬انهيار‭ ‬مماثل‭ ‬لليرة‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الثمانينات،‭ ‬لكن‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬ظل‭ ‬آنذاك‭ ‬قوياً،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الانهيارين‭ .‬انهيار‭ ‬الليرة‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬هو‭ ‬نتيجة‭ ‬لسوء‭ ‬الإدارة‭ ‬المالية‭ ‬للحكومة،‭ ‬بتركيزها‭ ‬على‭ ‬الإنفاق‭ ‬الجاري‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الاستثمار‭ ‬العام‭ .‬وتقع‭ ‬هذه‭ ‬المسؤولية،‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭ ‬المتضخم‭ ‬بعشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬المعينين‭ ‬سياسياً،‭ ‬ونفقات‭ ‬منفوخة‭ ‬ومثقلة‭ ‬بالفساد. ‬(يتبع)

مصدرنداء الوطن - توفيق كسبار
المادة السابقةتلزيم البريد معلّق على خشبة دراسة جدوى مجانية!
المقالة القادمةشحّ النقد بالليرة يرفع فوائد الـInterbank إلى ما بين 20 و80%